{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) }آل عمران156158-
المعاني المفردة(1)
كَفَرُواْ: الكفر في اللغة ستر النعمة وأصله الكَفر – بالفتح - أي الستر.. وفي الشريعة إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به.
ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ: الضَّرْبُ فِي الأَرْضِ - السَّفَرُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَالتِّجَارَةِ . وأصل الضرب فـي الأرض: الإبعاد فـيها سيراً.
غُـزًّى: جمع غاز وهو من يخرج لقتال ونحوه من شؤون الحرب.
حَسْرَةً: شدة الأسف على الحزن. ألم يأخذ بخناق النفس بسبب فوت مرغوب أو فقد محبوب.
في ظلال الآية
أولئك الذين تصيبهم الحسرات كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
{ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية بسبب انقطاعهم عن الله وعن قدره الجاري في الحياة .
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا .
. إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ونداء المضجع وقدر الله وسنته في الموت والحياة ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ولفاءوا إلى الله راضين :
{ والله يحيي ويميت } . .
فبيده إعطاء الحياة وبيده استرداد ما أعطى في الموعد المضروب والأجل المرسوم سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء وعنده العوض عن خبرة وعن علم وعن بصر : { والله بما تعملون بصير . . } . .
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ; فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله : { ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } . .(2)
من هداية الآية
1. ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب. وتحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً.(3)
2. الأخوّة في هذه الآيات أخوة النسب لا أخوّة الدين، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام، ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين، واتفق الى أن صار بعض المنافقين مقتولاً في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك.(4)
3. المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد، والخارج إلى الغزو، إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو، وجعلوا ذلك سبباً لتنفير الناس عن الجهاد، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل، فإذا قيل للمرء: إن تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش، وإن تقحمت أحدهما وصلت إلى الموت أو القتل، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد. فينهى الله الذين آمنوا أن يقولوا كما يقول المنافقون لمن يريد الخروج الى الجهاد: لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فإن الله هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد، وأيضاً الذي قتل في الجهاد، لو أنه ما خرج إلى الجهاد لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم، كان ذلك خيراً له من أن يموت من غير فائدة.(4)
4. فان قيل: فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه؟
قلنا: لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر، لا ما يقرب منه، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه، اذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وإن كان غازياً، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض. (4)
5. وقال الضحاك: ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين، لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت، وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سُودٍ تسرح في الجحيم.(5)
6. { والله بما تعملون بصير } قال الراغب: علق ذلك بالبصر لا بالسمع، وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً. لما كان ذلك القول من الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو يقصد فعلاً يحاوله: أنا أرى ما تفعله. "ترغيبٌ في الطاعةِ، وتحذيرٌ من المعصيةِ". ويقول الشعراوي: فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تٌُرى، وهذا القول هنا أقوى من " عليم "؛ لأن " عليم " تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر.(6)
7. إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياماً قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية.(7)
8. عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ عَلَىٰ فِرَاشِهِ ".(8) وعن أنَسٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً، أُعْطِيِهَا، وَلَوْ لَمْ تُصْبْهُ "(9)
9. { لو كانوا عندنا } أي لم يفارقونا { ما ماتوا وما قتلوا } وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم - لا سيما على هذا التأكيد - يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل. يقول خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر - أي حتف أنفه - فلا نامت أعين الجبناء.(10)
10. إنَّ المَوْتَ وَالحَيَاةَ بِيَدِ اللهِ، وَإلَيهِ يَرْجِعُ الأمْرُ، وَعِلْمُهُ وَبَصَرُهُ نَافِذَانِ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَعَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ لاَ يَكُونُوا مِثْلَ هَؤُلاءِ فِي قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَإلاَّ أَصَابَهُم الضَّعْفُ وَالوَهَنُ وَالفَشَلُ؛ وَالإِيمَانُ الصَّادِقُ يَزِيدُ صَاحِبَهُ إيقَاناً وَتَسْلِيماً بِكُلِّ مَا يَجْرِي بِهِ القَضَاءُ، وَأنَّ مَا وَقَعَ كَانَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أنْ يَقَعَ.(11)
.........................................
المراجع:
1) انظر: تفسير أبي السعود. وأيسر التفاسير- أسعد حومد. جامع البيان في تفسير القرآن. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير.
2) في ظلال القرآن.
3) تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير. وتفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور.
4) مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي.
5) تفسير بحر العلوم/ السمرقندي.
6) تفسير البحر المحيط/ ابو حيان. التفسير الكبير / للإمام الطبراني. وخواطر محمد متولي الشعراوي.
7) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري.
8) رواه الجماعةُ إلاَّ البخاريَّ.
9) انفرد به مُسْلم.
10) تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي. وخواطر محمد متولي الشعراوي.
11) أيسر التفاسير/ أسعد حومد.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
مصطلحات دينية أدب