لقد نزل القرآن الكريم، كلام الله المجيد ينشر على الناس من أريجه عطر القداسة، ويضم بين دفتيه ما يحير العقول ويأخذ بالألباب، حتى قال فيه أحد ألدّ أعدائه بحيرة: "والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل - أي محمد (ص)- فإذا هو ليس بشعر، وإنّ له لحلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمعذق وإنه ليعلو وما يعلى".
 
   جاء ليتحدى كبرياء الكلمة في عقر دارها، وشموخ البيان في عنفوانه:" قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" فكانت المعجزة التي ألقت لها الفصاحة قيادها، وكأنّ دولة البلاغة العظمى كانت تنتظر ملكها بلهفة وشوق، وهكذا كان حين خضع لجلال مقامه الإنس وكذا الجن، الذين قالوا:" إنّا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشــد فآمنا به".
 
   وإذا كانت هذه أهمية كتاب الله، فقد جاء الدارسون ليأخذوا من منابعه الصافية، فظهرت الدراسة مع ظهور القرآن ذاته، لذلك يقف الباحثون اليوم في هذا المجال على نتاج كبير لم يسبق أن ظهر مثله في مدّة زمنية مماثلة من قبل، كما يجد هؤلاء أنفسهم أمام تعدّد منهجي كبير يخرج عن المناهج المألوفة في التفسير ودراسات علوم القرآن (فقه، أصول الفقه...) وأمام استخدام لمناهج أجنبية وافدة.
 
   وفي الواقع فإن الاهتمام المتزايد بدراسات القرآن الكريم يعود لدى المسلمين أساسا إلى قضية "النهضة" التي أصبحت الشاغل الأكبر للفكر الإسلامي خلال القرنين الماضيين، حيث بات مسلّما بأن مشروع النهضة الإسلامي يمرّ من بوابة الإصلاح الديني، وكون القرآن الكريم هو المصدر الأول لكل فكر إسلامي فإن العودة إليه حاجة ملحة من الناحية المعرفية والتاريخية، لأن الثقافة التاريخية أو ما أخذناه عن السابقين من فهوم للقرآن يمكن أن تفصل بيننا وبين النص الكريم وتعوق الفهم الصحيح للدين، وبالتبعية تعوق النهضة المنشودة، ثم إن دراسة القرآن هي تقليد سارت عليه كل الحركات الفكرية في تاريخ الحضارة الإسلامية، فأي تفكير بالنهضة لا بدّ له أنّ يتّخذ موقفا تجاه النص الكريم وفهما يسوّغ رؤيته للحاضر والمستقبل.
 
   والملاحظ أن الأبحاث والدراسات القرآنية المختلفة تركزت في محورين رئيسيين أولهما: توثيق القرآن ونقله (تاريخية القرآن) والثاني: الدلالة الكلية للقرآن في إطار إعادة التفسير لأغراض معرفية وأيضا إيديولوجية(1).
 
    وفي العصر الحالي ظهر العديد من الباحثين الذين قدّموا عديد البحوث والدراسات في هذا الباب فكان "محمد أركون" الذي قدّم كتاب "نسبة القرآن إلى الله" (1969م) و" قراءات في القرآن" (1982) ثم "القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني" (2001م) وفي السياق ذاته ظهرت دراسة "نصر حامد أبو زيد": "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" (1990م)، ومحمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة" (1990م) وفي مؤلفاته الأخرى:" الإسلام والإيمان"(1996م) و "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي" (2001م).
 
وهذا الباحث الأخير (أي محمد شحرور) هو أساس بحثنا وموضوعه.
 
ويطرح موضوع "النص القرآني عند محمد شحرور" إشكالية محورية هي: كيف نظر شحرور إلى القرآن"؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية مشكلات جزئية: ما هو المنهج المتبع عند شحرور في دراسته للتنزيل الحكيم؟ وما هي القواعد التي وضعها لتأويل الآيات الكريمات؟ وكيف طبّق هذا التأويل على القرآن عموما، وعلى مفردات قرآنية بعينها، وأخيرا كيف درس شحرور القصص القرآني وما الجديد الذي حاول إضافته؟
 
ولدراسة هذا الموضوع فقد اعتمدنا على منهجين رئيسيين هما: المنهج التحليلي وذلك بهدف إبراز وتوضيح آراء شحرور، والمنهج النقدي، من أجل الرد ومعارضة بعض ما جاء به في آرائه، ونرى أنّ هذين المنهجين هما الأقدر على إيصالنا للغاية المنشودة من البحث وهي معرفة أصالة الأفكار التي جيء بها من عدمها.
 
وقد اشتملت الخطة على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، والمقدمة هي هذه التي بين أيدينا، أمّا الفصول الأربعة فقد عنونا الأول بـ:" محمد شحرور: السيرة والمنهج"، فعرفنا بهذا الباحث وبمنهجه العام في البحث، وفي الثاني المعنون بـ" التأويل عند محمد شحرور"فعرفنا بالتأويل قديما وحديثا والقواعد التي يضعها الباحث للتأويل، وتطرقنا إلى نموذج من هذا التأويل لننتقل في الفصل الثالث المسمى"الكتاب والأسماء المشابهة له عند شحرور" والذي درسنا فيه ست مفردات قرآنية يعطي شحرور لكل واحدة منها تعريفا خاصا، ليليها النقد الموجه له، أما الفصل الرابع والأخير المسمى "القصص القرآني عند شحرور" فحاولنا دراسة آرائه في هذا الباب (قصة نوح، هود، الأنبياء والرسل) ليليها أيضا النقد الموجه له في هذا المجال.
 
وقد استندنا في هذا البحث على مصدر رئيسي لمحمد شحرور وهو "الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة" موازاة مع الرجوع إلى القرآن الكريم للنظر في نصوصه المقدسة، أمّا عن المراجع فقد عدنا إلى نخبة من العلماء الأجلاء والدارسين الأكفاء نستزيد من معين علمهم لتوضيح الفكرة وفهمها واستيعابها، فرجعنا إلى ابن كثير، والثعالبي، والشوكاني وغيرهم.
 
ولا ندعي أننا أحطنا علما بكل ما جاء به شحرور، ولا حتى في النقاط التي درسناها، عذرنا في ذلك أننا نقطع الخطوات الأولى في مسافة الألف ميل.
 

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

ادب   شعر   كتاب