يشكل مبدأ السمع والطاعة أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام إذ بغيره تضرب الفوضى أطناب المجتمع وتدب الفتنة عند كل اختلاف في الرأي حول أمر من الأمور سواء أكان جذرياً أم فرعياً ، ولقد ورد النص على هذا المبدأ في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) "النساء: 59" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) "رواه مسلم عن أبي هريرة" ، وهو ماتنبهت إليه المجتمعات الإنسانية في تطورها الحديث حين توافقت على إيجاد مؤسسات وطنية ودولية تكون مهمتها إرساء قواعد ملزمة يخضع لها أعضاء المجتمع الداخلي أو الدولي كافة ، وتظل مسألة إقامة العدل منوطة بتطبيق هذه القواعد دون انتقائية أو تمييز .
غير أن نظام السمع والطاعة في الإسلام يختلف كثيراً عن تلك الطاعة المطلقة المعمول بها في النظام العسكري والتي لاتحتمل مجرد التفكير في الأمر الصادر من القائد إذ يكون على الجندي أن ينفذ الأمر فوراً دون تردد أو إبطاء ناهيك عن معارضة هذا الرأي أو الاختلاف حوله وهو مايجعل الطاعة هنا نوعاً من الخضوع الأعمى الذي يتنافى مع جوهر نظام السمع والطاعة الإسلامي والذي يتبدى بجلاء في سياق الآية السابقة ذاتها ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) "النساء : 59" إذ هناك إمكانية للاختلاف بين الآمر والمأمور تصل إلى حد التنازع وهناك مرجعية لحل هذا الخلاف مؤسسة على أحكام الله كما بينها رسوله صلى الله عليه وسلم بارساء قاعدة عامة مؤداها (لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق) "رواه أحمد والحاكم عن عمران ابن حصين" فصّلها وبينها في سنته القولية والفعلية والتقريرية ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ستكون عليكم أمراء من بعدي يأمرونكم بما لاتعرفون ويعملون بما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة) "الطبراني في الكبير عن عبادة ابن الصامت وصححه السيوطي" وهو مايعني عدم التزام الرعية بأمر الحاكم المخالف لمنهج الحق كما اجتمعت عليه خير أمة أخرجت للناس وهو مادفع الصحابي الجليل عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله عنه إلى رفض أمر أمير المؤمنين معاوية ابن أبي سفيان بمبايعة ابنه يزيد من بعده قائلاً له في حسم جدير بحملة كتاب الله : "إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله وإنا والله لانفعل ، والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتثيرن عليك الفتنة" ، ولو أن الأمة أدركت ما أدركه ابن أبي بكر من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لاتقت من الفتن والشرور مانعاني منه إلى اليوم ، لكن ما أحدثه أعداء الإسلام من فتن داخلية دفعت الكثير من الفقهاء المتأخرين إلى التضييق من مفهوم السمع والطاعة حتى اقتربوا به إلى حدود الطاعة العمياء التي تأباها عزة الإسلام وهو ماعاونهم فيه المستشرقون وأتباعهم أيما معاونة كي يوصموا الإسلام بنقيصة جديدة تضاف – في زعمهم- إلى نقائصه على نهجهم الذي يصدق عليه المثل العربي "رمتني بدائها وانسلت" .
من هنا تتبدى أهمية كتاب "المعارضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق" الذي ألفه المفكر الكبير الدكتور جابر قميحة وصدر حتى الآن في طبعتين عن الدار المصرية اللبنانية وهو كتاب جدير بأن يكون مرجعاً أساسياً لكل الباحثين في الحقل السياسي الإسلامي عامة وفي إشكالية التوفيق بين مبدأ السمع والطاعة كأساس من أسس استقرار المجتمع من ناحية وحرية المعارضة باعتبارها من حقوق الإنسان من ناحية أخرى وكيف أن النظام الإسلامي قد وازن بين الأمرين على نحو لم تبلغه الأنظمة الوضعية في قمة تطورها المعاصر .
ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين : المعارضة من زاوية التنظير ، والمعارضة من زاوية الواقع والتطبيق ..
* في القسم الأول يعرض الكاتب لمفهوم المعارضة من الناحيتين الاصطلاحية والشرعية شارحاً الاستخدامات المتعددة للفظة "معارضة" ومنتهياً إلى التقائها عند جوهر واحد هو "المواجهة والمخالفة والمنع والتحدي" ، كما يبين الاستخدام الاصطلاحي الحديث لها من الناحية الدستورية فيعرض باختصار مبين لأشكال المعارضة في الوقت الحاضر من أحزاب وقوى وجماعات سياسية رافضة لسياسات الحكومة ومايرتبط بذلك من حقوق وحريات عامة وآليات لممارسة حق المعارضة بدءاً من الاحتكام للقاعدة الشعبية في الانتخابات وانتهاء بالمشاركة في الحكم ، وهو ماينتهي به إلى طرح السؤال الذي سيقيم عليه بحثه حول ما إن كان للمعارضة مكان في الإسلام وماطبيعة هذه المعارضة وأبعادها ؟
وهو يسارع في الإجابة على تساؤله بالتأكيد على كون المعارضة ظاهرة طبيعية فطرية أقرها الإسلام وضبطها حين جعل جوهرها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) "آل عمران : 104" ، ومن هذا المنطلق يقسم المعارضة إلى عدة أقسام : معارضة وقائية قبل وقوع المنكر/معارضة علاجية باقتلاع الفساد والتغيير باليد وباللسان وبالقلب & معارضة استهلالية بإبداء الرأي تطوعاً/ معارضة شورية نتيجة طرح المسألة للمناقشة & معارضة فردية/معارضة جماعية & معارضة عابرة منبثقة عن شعور لحظي بالموقف/معارضة متأنية & معارضة مشروعة ملتزمة بمنطق الدين والعقل والمصلحة العامة/معارضة غير مشروعة مبنية على أغراض شخصية أو إضرار بالدين وإفساد للعقيدة ، وهو يسوق أمثلة تطبيقية لكل قسم من هذه الأقسام .
وفي تفريع مبتكر يضع الدكتور قميحة للمعارضة في الإسلام ركيزتين وضمانتين ، فالركيزتان هما :
1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وهو يعرض هنا في أسلوب جد شيق لمسألة الحسبة وضرورتها لحماية المجتمع وضوابطها الشرعية ، ولاتفلت من أستاذنا الفاضل خلال بحثه الجاد في موضوع الحسبة روح الفكاهة التي يتحلى بها حين يسخر بمرارة من تفسير البعض للتغيير باليد وباللسان بأن المقصود به أن من رأى منكراً من نفسه فليغير مابنفسه بيده هو وبلسانه هو وإلا استقر المنكر بقلبه وهذا أضعف درجات الإيمان !! فإذا علمنا أن من قال بهذا – والكلام من عندي أنا – هو أحد أساتذة الشريعة المعروفين اتضحت لنا أهمية الكتاب الذي بين أيدينا في استجلاء حقيقة الحسبة باعتبارها إحدى ركيزتي المعارضة في الإسلام .
2. أما الركيزة الثانية فهي الشورى : وفي هذا الجزء يناقش الكاتب مختلف الآراء المتعلقة بالموضوع مفنداً الاتجاه الذي يزعم أن الشورى شُرعت في الإسلام على سبيل الندب والاستحباب لاسبيل الفرض والإلزام وهو يستخدم في رده على هذا الرأي مهارته اللغوية وقدراته البحثية بحرفية عالية ليصل إلى وجوبية الشورى خاصة في وقتنا الحاضر لإن الحاكم لايمكنه الآن أن يحقق العدل بغير هذا الطريق ولما كان العدل واجباً بلا خلاف فما لايتم الواجب إلا به فهو واجب .
وأما الضمانتان فهما :
1. الحرية : وفي هذا الجزء يتجلى بوضوح عمق إدراك الكاتب لحقيقة الإسلام كنظام جاء ليرفع من كرامة الإنسان وليحرره من عبودية كل أحد وكل شئ إلا عبوديته لله الفرد الصمد وجعل من حرية الفكر المرتبطة بالعقل وهو أرقى مافي الإنسان حقاً مرتبطاً بوجود الإنسان ذاته، ومن هنا كفل الإسلام حرية الاعتقاد ورسخ قاعدة (لا إكراه في الدين) "البقرة : 265" ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لاقيمة لحرية الفكر ولا لحرية الاعتقاد بغير حرية التعبير التي هي التطبيق العملي للحرية وهي التي تضمن – بالتالي – وجود المعارضة المتمثلة في الكلمة الحرة لايقيدها إلا ضوابط الخُلق والنظام .
2. العدل : باعتباره من أهم أسس النظام الإسلامي ، وللعدل الإسلامي مفهوم شامل لايقف عند حد ولايعجز أمام قوي لقوته ولايهون من شأن ضعيف لضعفه بل القوي في الإسلام ضعيف إلى أن يؤخذ الحق منه والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له ، والعدل هنا ضمانة وسياج لحماية صاحب الرأي حين يجهر برأي يخالف رأي صاحب السلطان إذ العدل يسوي بين الحاكم والمحكوم أمام القانون .
وينتهي القسم الأول من الكتاب بفصل خاص يسلط الضوء على صور المعارضة إسلامياً في مجتمع معاصر ، والكاتب هنا يعرض بموضوعية لمختلف الاجتهادات في شأن إنشاء الأحزاب السياسية والتي تتراوح بين حرمة إنشاء الأحزاب أو مشروعيتها بإطلاق أو مشروعيتها في إطار الالتزام بسيادة الشريعة وعدم الخروج على ثوابتها ، وهو يؤكد على حقيقة كون المعارضة من ضرورات النظام الديمقراطي وأن صورة المعارضة التي تتفق مع الإسلام هي الصورة التي يثبت بالتجربة وبالممارسة أنها أوفق الصور وأنجعها وأكثرها نفعاً للأمة وأقواها تأثيراً وفاعلية في القضاء على الفساد .
ولقد كان في وسع الكاتب – وليته فعل – أن يتجنب الخوض في مسألة التطبيق الإسلامي للمعارضة في المجتمع المعاصر مادام لم يتعرض لتكييف طبيعة هذا المجتمع من الناحية الشرعية فليست المعاصرة وحدها هي مناط الأحكام فضلاً عن أن تطبيقات المعارضة في المجتمع المعاصر تخرج عن زاوية التنظير التي خصص لها القسم الأول من كتابه ولو أنه اكتفى بما سبق لما أخل بالتوازن الذي ابتغاه بين النظرية والتطبيق وليته يفعل هذا في الطبعات اللاحقة من كتابه القيم على أن يفرد – إن شاء – بحثاً مستقلاً للمقارنة بين الفكرين الإسلامي والديمقراطي واضعاً في اعتباره ماعده هو ذاته في الفصل الأول من هذا القسم التزاماً منهجياً بعدم البحث في المعارضة الإسلامية وفي الذهن المعايير والمقاييس والضوابط التي تحكم المعارضة في المجتمعات السياسية المعاصرة .
* أما القسم الثاني من الكتاب فقد خُصص للتطبيقات العملية للمعارضة في صدر الإسلام مقدماً العديد من الأمثلة في العهد النبوي ثم في عهود الخلفاء الراشدين الأربعة ، والكتاب في هذا الصدد يعد وثيقة هامة لمن أراد أن يتمثل بنماذج المعارضة السياسية في خير القرون ، والكاتب لايكتفي هنا بمجرد السرد والإيضاح للنموذج المطروح وإنما هو يرسم باسلوبه المتميز إطاراً عاماً لفعل المعارضة ينقله من النظرية إلى التطبيق مستصحباً ركائزه وضماناته دون تفريط ، فمن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وماتجلى فيها من عرض للرأي الآخر وتطبيق للشورى إلى الجدل والخلاف المثار بين الصحابة في سقيفة بني ساعدة إلى معارضة كثير من المسلمين لأبي بكر في حرب الردة وبعث أسامة ابن زيد إلى المثال الفذ للمعارضة الجماعية فيما بتعلق بالسياسة الاقتصادية للدولة بعد الفتح في عهد عمر ابن الخطاب ونجاح التحكيم في حل مشكلة توزيع الأرض المفتوحة حتى يصل بنا الكاتب إلى ما أطلق عليه "المعارضة الحزبية المسلحة" وماوقع بين المسلمين من تقاتل خاتماً بحثه القيم الجدير بالاقتناء وبالعودة إليه مراراً بفقرة رائعة تلخص في كلمات رؤيته الصادقة والعميقة لفكرة المعارضة في الإسلام حيث يقول : "في كل الحالات كانت المعارضة – أياً كانت صورتها- شاهدة بعظمة الإسلام لأن السويّ الوضئ منها انطلق من مرتكزات هذا الدين واستلهم روحه العظيمة ولإن الشاذ الوضيع منها لم يكن كذلك إلا بقدر بعده أو انسلاخه من شرع الله".
المراجع
رابطة ادباء الشام
التصانيف
ادب شعر كتاب