..الفن التشكيلي له مكانة خاصة في روحي، لأنني بدأت مبكراً بممارسة الرسم في المراحل الدراسية الأولى، أذكر في المرحلة الإعدادية كنت شغوفاً بالقراءة في الفن التشكيلي، وبدأت التعرف على أجواء الفنانين والكتاب من خلال ذلك الإهتمام. وفي حصص الرسم كان الزملاء والزميلات يهيلون عليَّ كراساتهم "بعد أن يخرج المدرس بالطبع"، لأرسم لهم، والمدهش أنني كنت أحب ذلك، وأرسم لكل زميل أو زميلة نفس الموضوع بطريقة مختلفة. وهناك موقف يمثل لي نقطة تحول، لا زال محفوراً في الذاكرة من بدايات المرحلة الثانوية، حين طلب منا مدرس الرسم أن نرسم لوحة عن "الثورة"، بشكل حر، ورسمت الموضوع كما ظهر في مخيلتي.
صورة:
"مجموعة من الثوار العزل من الأسلحة، في مواجهة حملة البنادق من الجنود، والنار تنطلق على الثوار وترديهم قلتى في الميدان، والدماء تسيل تحت أقدامهم."
وحين انتهيت من تلوينه بالألوان المائية، إذّ بالمدرس وهو يمر علينا يتوقف أمامي، ويأخذ ما رسمت من أمامه، ويحدق فيه طويلاً، ثم أخذني من ذراعي وذهبنا إلى مكتبه "مرسم المدرسة"، ووجدته يعلق ما رسمته على الحائط في مكان بارز، بعناية واهتمام، وسألني: هل تعرف "غويا"، لم أعلق، لأنني لم أكن أعرف ذلك الإسم في ذلك الوقت، ووجدته يخرج كتاباً ويفتحه على صفحة بها لوحة تنطبق تماماً على ما رسمته، مع اختلافات طفيفة في الألوان، وقرأت أسفل اللوحة "إعدام الثوار" للفنان الإسباني "فرانسيس غويا". من يومها صارت صداقة بيني وبين مدرسي الفنان كمال أحمد، الذي أمدني بالكثير في مجال الفن التشكيلي.
واستمرت ممارستي للرسم خلال المرحلة الجامعية وحتى نهايتها، من خلال الإشتراك في النشاط الفني الجامعي، والمشاركة في المسابقات الفنية، وحصلت في تلك السنوات على عدد كبير من الشهادات (16 شهادة تقدير) والميداليات، قبل أن أتحول إلى كتابة الشعر، ومن شجرة الشعر الكثيفة والقصائد، أتسرب إلى أفرع القصة والرواية، التي انتهيت إليها كمشروع إبداعي أعكف عليه، ولا زلت أستفيد كثيراً في رواياتي بالرؤية التشكيلية التي تكونت لديَّ، ولا زالت تظهر ملامحها في كتاباتي، بوعي أو بدون وعي، ففي روايتي الأولى "غادة الأساطير الحالمة"، رسمت فصولها "36 فاصلة روائية" كل فاصلة في مشهد يعبر عما أود كتابته، قبل أن أكتبها، مما جعل عملية الكتابة تتم بسهولة، دون عناء، أو توقف، لأنها كانت مصحوبة بابتسامة تعانق ما رسمته.
ولا زال تأثير الفن التشكيلي يظهر في رواياتي، بأشكال متغيرة، بوابته تعتمد على الصورة، التي أود التركيز عليها في السرد، وإظهارها للقارىء، وهو ما حمسني أن يكون أحد أبطال روايتي "خيال ساخن" هو فنان تشكيلي، حتى أستطيع من خلاله التعبير بشكل أكثر شمولية، وحضوراً في فضاء السرد، وحتى تكون الصورة التشكيلية الحاضرة في المتن لها مبرر قوي، وأرض تتكيء عليها لتشكل وعي الشخصيات والأبطال في الرواية، لأن الصورة تعطي دلالاتها، وقوتها، بشكل أسرع، وأكثر تأثيراً ولمساً للروح، من صفحات كثيرة يمكن أن تمر على القارىء دون أن تلمسه أو تحرك ذهنه، وإحساسه بما يقرأ.
تبدأ الرواية بمشهد في حديقة بيت التاجر وهو فنان تشكيلي في نفس الوقت بنقل كتلة صخرية منحوتة بفعل الزمن "أخشاب متحجرة" اكتشفها في الصحراء بعد أن فتنته بتفاصيل الحياة المتجمدة فيها، وأراد نقلها إلى فضاء بيته، لتستقر بين الأشجار الحية للحديقة. بعد مجموعة من الأحداث نجد فوقها تمثال صنعه المثّال لبطل الرواية "ساهر" وهو يصارع أسداً، ويخرج الماء ليصب في حوض النافورة من فم الأسد، ومن أفواه ضفادع منحوتة ومثبتة في الإطار الداخلي لنافورة الماء.
صورة:
"أخبره برغبته في صنع تمثال لساهر وهو ممسك بفكي أسد، في حالة عراك، ليثبته فوق الصخرة، ويجعل الماء يخرج من فم الأسد، ومن أفواه الضفادع التي ترقد على حافة نافورة كبيرة تتوسط حديقة البيت".
وتنشأ علاقة حية بين جمانة "بطلة الرواية وابنة التاجر"، وتمثال ساهر، تظهر في صورة عديدة.
صورة:
"في ليلة من ليالي الشتاء أمطرت الدنيا بغزارة، خرجت جمانة مسرعة، ألقت بغطائين فوق التمثالين، عادت ترتجف، وقفت خلف نافذتها، تنتظر توقف المطر، لتخرج إلى حبيبها، تجفف البلل عنه وتبتسم، إلى أن سقطت من الإعياء".
وفي أحداث الرواية يعكف الفنان التشكيلي على لوحاته في مرسمه الخاص، ليرسم بعض اللوحات الفانتازية، من خلال رسم حيوانات خرافية، يرسم تنيناً مبتكراً وفي لحظات اندماج كامل، يخرج ذلك الكائن من اللوحة المرسومة، ويتحرك بحرية داخل السرد، لتنطلق وتشكل عوالمها الخاصة، المتشابكة مع عالم الإنسان في البناء السردي للرواية.
صورة:
"أمسك فرشاة، خط خطوطاً مختلطة الألوان، أبعد ما رسمه عنه ونظر إليه مستغرباً، رأى حيواناً غريباً يتحرك أمامه، خارجاً من اللوحة، جسمه الطويل مقسم إلى حلقات عرضية، رقبته مكسوة بشعر غزير، شكله تحول إلى تنين مرعب، النار تخرج مندفعة من فمه، لولا أن السقف عالٍ لحرقت ناره البيت، حاول أن يسيطر عليه فبدا الغضب على أطرافه، تركه يخرج من البيت ويتخطى البوابة، وقف أمام التمثال المثبت في النافورة فترة، قبل أن يعدو خلف الغبار، الذي تثيره الأرجل المسرعة، في اتجاه ساحة البيع والشراء".
* ورقة مشاركة في بينالي الثقافية الدولي الأول (اشتباك):
"الصورة في الرواية" .1 يونيه 2009