3- سيرورة التحول في مفهوم القصيدة عند محمد بنعمارة
3-1- المرحلة الأولى: التوجه الرومانسي والبحث عن الذات
 ( الشمس والبحر والأحزان ) [1] أول ديوان مطبوع للشاعر محمد بنعمارة. توجه الخطاب في هذا المتن صوب تحقيق الذات عبر محطتين أساسيتين:
 المحطة الأولى : الذات الشاعرة في علاقتها مع الآخر.
المحطة الثانية : الذات الشاعرة تجاه الوطن ( العربي). ونعتبر هذا التوجه في هذه المرحلة الأولى باهتا وغير ذي مغزى، رغم أن الإهداء كان موجها إلى الوطن العربي. وسنركز الحديث على المحطة الأولى لنكتشف أهم التحولات التي طرأت على التجربة الشعرية  وتحولاتها.
إن الاعتراف الأولي بالاختفاء وراء بعض الألفاظ لتحقيق المراد، بدد الغيوم التي يمكن أن تغطي عنا سبيل البحث. ذلك أن الشاعر عبر في مقدمة الديوان التي سماها كلمة ، عن سبب اختيار العنوان:" ترددت قليلا قبل الاختيار ، إلا أن ترددي انتهى حينما أحسست بأن معاني شعرية أهفو أن أحققها، تختفي بين كلمات الشمس – البحر – الأحزان.
الشمس.. بعناد حرارتها.
البحر.. بصموده الأبدي.
والأحزان.. أعتقد أن كل إنسان يفهم معناها..
فإليك عزيزي القارئ..شمسي.. وبحري
أما أحزاني فسأحتفظ بها.." [2]
لسنا هنا لنتمثل آراء الشاعر ذاته، فكثير من يعتقد أن الإقرار بنظرة صاحب المتن المدروس يغطي على الدراسة من حيث عدم الموضوعية. لكن هدفنا - نحن - هو التدليل على وجود التحولات الدلالية في اللفظ الشعري من خلال رأي الشاعر أولا، ثم من دراستنا الميدانية ( على المتن الشعري).
ولا يمكننا الحديث عن النص الإبداعي دون اللجوء إلى مثل هذه التعريفات التي ساقها الشاعر، لنوضح سير العملية الإبداعية، وتحليل السلسلة الإبداعية التي تنطلق غالبا من الطبيعة اللغوية يقول محمد بنيس محددا سير هذه العلاقات:
" إن النص الشعري كغيره من النصوص الإبداعية سلسلة من الترابطات والأدلة اللغوية، بل هو أداة مركبة خاضعة لبنية عامة متجانسة تحكم هذا التبنين، ولذلك يعتبره كريماس دليلا معقدا، يخضع لقوانين وقواعد تختلف عن تلك التي تخضع لها الأدلة اللغوية في كل كلام يومي تنحصر مهمتها في إحداث التواصل والتفاهم بين الناس." [3]
يقول محمد بنعمارة:
" قال بعض القوم إني
روح إلهامي وفني
قالوا: شاعر حب
أحرقوه كي يغني                                                     
وأنا ما زلت لم أفهم شجوني" [4]
كيف يكون الشاعر روح إلهامه وفنه؟
الروح هنا لا تأخذ معناها الحرفي التي لا يمكن معرفة حقيقتها إلا بعد فنائها ، وهي التي لا يعلم سرها إلا الخالق. فالشاعر تحول مفعوله إلى شيء غيبي يلهم ذاته الشعر، ويزكي هذا القول قوله: " شاعر حب".
فرغم أن هذا التعبير صادر في لغتنا بكثرة ( شاعر حب) إلا أنه يتحول هنا إلى مرادف لحب الذات الشاعرة نفسها:
وأنا ذكرى.. وحب.. وحريق [5]
ويسند ( الروح) إلى لفظة (الحديث = الكلام ) ليستعير متعة الكلام الغيبي الذي ينزل الفؤاد منزلة القول غير العادي، كما أن إسناد الحديث الذي هو صفة الكلام إلى الروح التي هي شيء معنوي غير محسوس، جعل الاستعارة تتجه نحو التعبير عن الشعر النابع من الذات:
" يا نجم هـــــــات النور أغنيــــــــــة
واسمع حديث الروح أنت له النداء" [6]
ويستعير الشاعر للشعر مفاهيم متنوعة وذات أبعاد دلالية كبرى لا يمكن الوصول إليها إلا بتأويلها والنظر إلى السياق الذي تسير فيه.
v        الشعر كف
يقول:
" ظن أن العمر أعوام قصيرة
وتناسى.. أن أبياتي وشعري
هي دنياي الكبيرة
هي أيامي الكبيرة..
هي - كف- يصفع النفس الصغيرة." [7]
الكف كما هو متعارف عليه في اللغة اليومية والقواميس باطن اليد، غير أن الشاعر ينعت الشعر به. فيكون الشعر كفا، ولا يمكننا أن ندرك المعنى الحقيقي المتحول عن هذا التعبير إلا إذا تتبعناه سياقيا.
 فالشاعر يزاول إجرائية الشعر، وينمي من قدراته كي يبرز غايته المتمثلة في الـتأثير في النفس. وبما أنه يسير سير الرومانسي الحالم، فالتأثير غالبا ما يكون هنا في نفس الشخص المخاطب (الحبيب). أما عن صفة ( الصغيرة) فلا نعتقد أنها توضح الدلالة الحقيقية إلا من جهة الإتمام والقافية.
لذلك فـ:" إن بعض العوامل التي تؤثر على اختيارنا إحدى الكلمات والتعابير المترادفة فكريا، أو تقرره لا علاقة لها بالموضع أو الإشارة أو أي شيء آخر قد يصح تسميته بـ( المعنى)، ويتعمد الكثير من الناس الامتناع عن استعمال نفس الكلمة غير مرة في نفس التفوه، إن استطاعوا ويختار آخرون بدراية أو عن  غير دراية كلمة أقصر مفضلينها على كلمة أطول… وفي كتابة الشعر فإن التحديدات اللفظية الخاصة التي يتطلبها البحر أو القافية تقدم عوامل غير دلالية أخرى." [8]  
إن مثل هذا التحديد لا يعطي الانطباع الكلي أن ما لم يفد المبتغى لا يمكن إلا أن يكون زائدا، ذلك أن الاستعارة يمكن أن تكون مختفية إلى حد يصعب الوصول إليها وإن استعملنا التأويل. لكن مع ذلك فيبدو أن لفظ الصغيرة لا  تدل على المعنى المراد تشخيصه.
v        الشعر أفكار
يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( أفهِمْتَ شعري):
أفهمت أشعاري
حاول
 ففي الشعر أفكاري وأفكارك
والصمت يقتلني ويغتالك [9]
في البيت السالف أظهر الشاعر غاية الشعر بوصفة الكف/ الفعل، أما في هذه القصيدة فيمثل هوية الشعر إذ هو أفكار. وهذه اللفظة لا تدل على معناها الجاف أي مجموعة من الرؤى التي يحملها الشاعر ويريد أن يوصلها، لكن هي ما  لم يستطع المتلقي الوصول إليه، أي المعاني البعيدة، التي تحتاج إلى التفكير والتفكيك.
إن الفكرة الحالية تسعفنا أكثر في التدليل عل صحة قول اعتماد الشاعر المجاز والاستعارة وباقي الأجناس البلاغية ليوصل المعنى مشتبها فيه. وتحيطنا بجملة من المعارف التي تقودنا للوصول إلى حل اللغز الشعري.
v        الشعر إبحار
يتوفر الخطاب الشعري الحالي على أسس التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة. وقد لا ننتبه إليه إلا حين نقرأ القصيدة / المقطع التالي:
لا زالت الأفكار تشنقني
وتدفع بي إلى الإبحار
في رحلة محفوفة بمخاطر الأقدار
لا تستطيع الريح تغيير مجرى أكبر الأنهار [10]
على ضوء مفهوم الشعر السالف، وبناء على مقولة التحولات الدلالية التي نبحث فيها، استطاع الشاعر في هذا المقطع أن يحول شعره/ ومعه ذاته الشاعرة، إلى إبحار في أكبر الأنهار، دون أن تحوَّل مسيرته ودون أن يتخوف من المخاطر.
كيف يكون الشعر إبحارا؟
الإبحار لا يقوم به إلا من يستطيع ركوب الموج الحقيقية، غير أن الإبحار هنا هو ركوب الأمواج الشعرية التي تنبني عليها القصيدة. إنه البحر الشعري، بمشاقه وأهواله وصعوباته.
لذا، فإلى جانب محاولة التجريب الشعري، نسعى نحن  إلى تأويل ما يتعلق بالسياق اللغوي والاجتماعي. غير أن التجربة الشعرية عنده لم تكن تصل درجة الإيحاء والرمز والتعبير الشعري الدال، دون أن يقر ببعض القرائن والمؤشرات. من هذا المنطلق نصل إلى التحديد الرابع:
v      الشعر قضية :
يتناغم الوطن والذات في هذا الإنجاز الشعري، ويحاول الشاعر أن يصيِّر ذاته مدافعة عن الوطن بكل تجلياته: المحلية والعربية. ويحمل محمد بنعمارة هذا المشعل منذ بداية الديوان. يقول في الإهداء:
منك قطفت هذه الوردة
وإليك أهدي هذه الباقة
إليك يا وطني العربي [11]
غير أن الوطن هنا لا يمثل الأرض العربية بقدر ما نرى فيه تحولا إلى أرض الخلاص . لذلك نجد الشاعر :" لا يخرج - خلال تعامله مع المكان - عن النسق الثلاثي:
·   الأرض / المكان الكائن.
·   الأرض / الأفق المستقبلي.
·   مرتكزات الأفق المستقبلي."[12]
ونضيف – نحن – في هذا الإطار المكان / الذات سواء أكانت الذات الشخصية أم الذات الأخرى / المخاطب. ولأننا في تثبيت الحديث عن المرحلة الأولى فلا بأس أن ندلي ببعض الأبيات التي تؤكد ذلك:
يقول في قصيدة ( قصائدي):
حبيبتي الشقية
وسيلتي إليك
قصائدي الشقية
ففي كل سطر – وبين كل حرف
وعند كل نقطة
ملخص القضية [13]
ملخص القصيدة .. قضية.  والقضية لا تكمن في ما يصادفنا في المعاجم، الدالة على الفكرة التي يتقاسمها مجموعة من الأفراد تجاه فعل معين، بل هي الآن ملخص الأفكار التي يحملها الشاعر، و الفكرة كما سلف الذكر هي القصيدة، والقضية هي القصيدة الشقية ، التي تعاند وتصارع من أجل الوجود. لأنه يصرح بضرورة التوحد لا في الوطن / الأرض، ولكن في الوطن / الذات:
يقول في قصيدة ( أنت بفني):
تجرأتُ يوماً
وقلت أحبكْ
كتبت القصائد عنك وعني
فكنت النشيد، وكنت المغني
وكنا معا.. فكرتين بفني.. [14]
من البداية كان الاعتراف بسلطة الذات في هذه المرحلة، وهي من المرتكزات التي حولت مسير الشعر المغربي عامة من سلطة الاتباع إلى الإبداع.  وأعلنت القطيعة مع الثبات. يقول محمد بنيس:" إن القطيعة التي أعلنها الشعراء المغاربة المعاصرون بالمغرب، متأثرين بالحركة الشعرية المعاصرة في الشرق العربي، لم تكن مشروع نزوة عابرة أو مجرد غيٍّ يقود جماعة متمردة تحتمي بالعصيان في مقتبل عمرها، بل كانت  علاقة مضيئة للوعي بدواعي التغير والتحول في زمن لم يعد يستسيغ القناعة والرضى بكل موروث قدسه أعداء الإنسان، وحرموا مسه أو محاورته من منظور معاصر." [15]
وهكذا يمكن القول إن الشاعر محمد بنعمارة حاول أن يثبت قدرته في ممارسة الشعر على منوال الحداثيين، بتعرضه لقضايا العرب، والضرب على منوالهم. لكن ذلك لم يمنعه من الوقوع في سلطة الذات ، وارتبط هذا النوع أيضا بالسمات الدلالية التي كان يرغب الوصول إليها عبر مناشدته القصيدة، والحديث عن الشعر بمكوناته وأهدافه وتجلياته.

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

ادب   شعر   كتاب