الكتابة الشعرية
 حين يتحول الخطاب الشعري من مرحلة الخضوع للذات إلى استلهام مواضيع الحياة الاجتماعية والسياسية، يأخذ مسيرا جديدا، ينبع من ذات شاعرة مليئة بالأحزان والفواجع. وبذلك تكون التجربة الشعرية عبارة عن لمسات فنية يغلب عليها طابع الرمز والإشارة، ويسيج الشاعر قصائده بلون من الإيحاء والإيماء.
إن تلقي النص الشعري في هذه المرحلة كان أساسه الانفلات من الذات إلى الواقع وهذه الخصوصية جعلت الشاعر:" يضمر قليلا صوته العاطفي، ليفسح المجال للفكر، أو ما يسمى ب (القصيدة الذهنية ). تتخذ المرأة فيها على سبيل المثال الأرض، الرمز للصمود والديمومة." [1]
للوصول إلى هذه الدلالات استفاد الشاعر من الوصلات الجديدة للشعر العربي، واستطاع أن يبرهن على مثوله الشخصي أمام ذاته يحاسبها على الماضي. وإذا كانت الدلالات تؤخذ من المنبع الأول ، من الحقيقة التي يحملها الشاعر وهو يحاول أن يبني صرح شعره.  فإنه كوَّن تجربته الشعرية انطلاقا من السيرورة التاريخية والأحداث المرتبطة بها.
v       مفهوم القصيدة: من الانقطاع عن الكتابة إلى التحول في التجربة
تنشأ القيمة الفنية للنص الشعري من متتاليات الخطاب، والتوجه الذي تسري فيه باقي خصائصه. لذلك فلجوء الشاعر إلى تحد للواقع، والتخلص من مخلفات الماضي وسلبياته تعد لازمة للتحول في التجربة الشعرية.
يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( قصيدة متمردة):
الشعراء ما عادوا محبين
وحدائق العشاق لم تعد ملجأهم
والشوارع والأماسي.. والشواطئ
ما عادت مرابع للشعور.. [2]
فالشعر تحول من مرادف الطبيعة والحب، إلى موضوع للرغيف والواقع اليومي:
الرغيف هو موضوع القصيدة
والجائع هو معشوق الشعراء [3]
هنا يعيش الشاعر ازدواجية التجربة الشعرية: الماضية، والتجربة الحالية، ويتمنى أن تُنسى المرحلة التي طبعها الحب والعاطفة:
جئناك يا مدائن اصمت
نحمل أشعارا حبلى بالرمز وبالألغاز…
وسقينا القراء قصائد رمزية
وكتبنا عن كل قضية
وبحثنا في الشعر عن الخنجر
وتقيأنا ما قلناه عن المرأة
تقيأنا ما قلناه عن العشق..  [4]
إذن الشعر هو الخنجر، الخنجر بما يحمل من صفات القطع والتقطيع، فكذاك الشعر ينصرف إلى هذا الاتجاه ، كي يعبر الشاعر عن هموم الشعب ويحول التجربة الشعرية- التي أصبحي عقيمة- في نظره، لذا ينبغي التخلص من هذه المرحلة.
إذا كان موقف الشاعر من هذه المرحلة موقفا واضحا من خلال اعتبارها المرحلة الذهنية، فإن الذهنية هنا لم تبرز بشكل لافت، ولم يوفها محمد بنعمارة حقها، لأن التقاطع الحاصل بين الواقعية في هذا الديوان وسابقه لا يعطي الانطباع التام بالاستقلال، كما أن الذهنية هنا ليست هي ذاتها التي عبر عنها محمد علي الرباوي بقوله:" والشعر الذهني قليل الحضور في الشعر المغربي المعاصر، ولعل الشاعر عبد الكريم الطبال أبرز من يمثله." [5] التي تدل على الشعر المعبر عن الفكرة والقضية بمستوى تعبيري ذهني وغير بارز.
في سياق تحديد صفة هذا المرحلة، لم يفت محمد بنعمارة تأكيد صفة الارتباط بالواقع ( أو ما عبر عنه بالذهنية) وتميزت الصورة الشعرية عنده بالتفاوت بين التقريري والإيحائي، وكذا الأبعاد المرتبطة بالحديث عن القصيدة. ومجموع الشروط المرتبطة بتحول دلالة القصيدة كانت متاحة، ذلك أن الشاعر حول تجربته الشعرية من المجال العاطفي إلى الموضوعي الواقعي، ولو أن هذا الأمر كان نسبيا ثم كون الشاعر تخلص من الماضي وارتبط بالواقع، فهذا مسوغ أساس لتحويل مفهوم القصيدة عنده.
إن التحول في مسير التجربة الشعرية أثار غضب قريحة الشاعر، وانقطع إثره الإلهام الشعري، وقد عبر محمد بنعمارة عن هذا التحول بتقديمه مراحل كتابته الشعرية بطريقة مجازية، تتحول فيها اللفظة العادية إلى سياق عام للنص الشعري.
يقول في قصيدة (عصفور في وادي الصمت):
تحملني شالة بين الكفين
وتقذف بي..
في زمن أدخله مشلولا..
أرحل منه الرحلة تلو الرحله.. [6]
لم يعد الشاعر يعبر عن القصيدة بطريقة تقريرية كما رأينا سالفا، بل اتجه نحو وضع الكلمة في غير موضعها الأصلي كي يصل إلى الغرض. في هذا الصدد نصادف قولا لعبد الله راجع يتناول فيه قضية تحول الدلالة من معناها العرفي إلى ما دونه، يقول:" توضع الكلمة في البداية للدلالة على معنى عرفي، لكن تجارب أي مجتمع هي أكثر من أن تحدها المعاني العرفية، لهذا يميل الاستعمال إلى الإتيان في بعض الأحيان بتعابير يصح القول بأنها ملتوية لكن رغم ذلك أكثر إيفاء بالمعنى المراد الإشارة إليه." [7]
ولاختبار هذا المنحى في شعر محمد بنعمارة نتجه صوب تحليل طريقته في تعريف القصيدة والنص الشعري ، وهو في هذه المرحلة يبدأ سمة الغموض وعدم الإفصاح المباشر.
يقول في قصيدة ( عناقيد وادي الصمت)، حيث يتابع سير أحداث الكتابة، فبعد الانقطاع، يأتي دور استرجاع القول الشعري:
بين أيام الذبول
تفتحت زهرات عشق يانعه
والغيم أمطر
بارك الله الجزيرة فادخليها
وادخلي صخب الكلمات… [8]
نقف في هذا المقطع عند لفظة( زهرات )، وحمولتها السطحية تدل على ما هو متعارف عليه لغة. لكن الشاعر حول دلالتها إلى معنى القصيدة، ولا يمكننا الوصول إليها دون اللجوء إلى آليات سبق تعريفها :
·      القرينة التعبيرية: إذ الشاعر يضيف إليه لفظة عشق (زهرات عشق)، وقد سبق لنا الوقوف في المرحلة السالفة عند قصيدة العشق، كما أن القرائن السياقية(السياق اللغوي) تسير في تأكيد القول: ( ادخلي صخب الكلمات).
·      القرينة السياقية: ذلك أن القصيدة بأكملها تحاول أن تتطرق لموضوع النص الشعري من هذا المنطلق:
كالليالي، أثقلتني فارتويت
بحزنها، يا حزن شعري،
 البحر تسكنني عواصفه
لأبحث عنك أصدافا [9]
v        القصيدة / الأنثى:
إذا كنا انطلقنا في المحور السابق من تفكيك نظرة الشاعر محمد بنعمارة عن القطيعة مع الشعر السالف، فهو لم يخل سبيله نهائيا مع هذه التجربة العاطفية،
بل تحول مع تجربته الجديدة إلى مخاطبة الوطن والأنثى خطابا يتسم في غالب الأحيان بالتجرد من خصوصية الذات المحبة. ويحاور مخاطبته وهو في حالة استعطاف تارة، أو استجارة  (اللجوء) تارة أخرى. ويناجي أحيانا أخرى القصيدة بتمثلها امرأة، ويجادلها في أمور الحب والضياع وسط الواقع المر، كما يعتبرها مملكته التي لا تنتهي:
أعوامك جفت..
وفصولك أربعة
صيف.. صيف.. صيف.. صيف..
البحر تمرد..
وأنا أتمرد من أجل البحر..
..
لا أحمل سيفا أو رمحا
ممتلكاتي في ساحاتك
خيل جاثمة.. [10]
في ضوء هذه الهيمنة التي يرام من ورائها تعريف التجربة الشعرية، سعى محمد بنعمارة إلى تقمص المجاز والاستعارة من ألفاظ ذات دلالات متعارف عليها ليحولها إلى سياقات جديدة. ومن وحدات معجمية محددة إلى استعارات ذات أبعاد دلالية متنوعة. كما أن الأشكال المكتسبة التي طبعت التجربة الشعرية الحالية عكست التحولات والإبدالات الحاصلة في درجة الوعي بالكتابة، وفي تفاعل الشاعر مع محيطه الخارجي.
لقد كان التجاوز موهبة تصدر عن الذات التواقة للفعل والتغيير، وتميزت الحركة في النص الشعري عند محمد بنعمارة بالتميز من حيث الخوضُ في تعريف القصيدة ومخاطبتها بشتى الصفات.
يهمنا من هذا أن ننتبه إلى العلاقة التي يرمي الشاعر تحققها من هذا التميز. ذلك أن القراءة هي المؤول لضروراتها ، والقراءة إذا لم تحمل معها معاول التحليل العميق لا يمكنها أن تصل إلى الحل الجريء والقريب إن لم نقل النهائي.
تلك هي المساحة الموغلة بين التصريح والإشارة وإن:" الشاعر لا يريد أن.يصل بالقارئ إلى الهدف عن طريق خطى عادية، وإلا تحول عمله إلى مجرد نثر، فالقصيدة كما يقول بول فاليري مشية، ولكنها مشية راقصة حين يتحرك النثر صوب الهدف بخطى عادية ومتزنة، والشاعر يدرك أكثر من غيره بأن عمله يختص بإتقان هذا الرقص، في الوقت الذي ينبغي أن يمتزج فيه الرقص بالتحرك نحو الهدف." [11]
إن محمد بنعمارة حين يراقص الألفاظ ويحولها عن حالتها المصرح بها، إنما ينتقل بنا إلى دور المشاركة الوجدانية وحالاته، ولا يمكننا إذاك أن نفصل في محتوى مكنوناته دون أن نتوغل في تجربته. وقد حاولنا أن ننبه إلى بعض منها، ولنا في المقطع الموالي من قصيدة ( موال جرح الوردة ) تجلٍّ لهذه الممارسة، يقول:
تأتيك من البحر زوابعه
هذا موكب عشقي يأتيك
الموج الزاحف، يلهث خلف الشطآن
…تحمل لون العشق
تبوح برائحة العشق المشنوق
فتحت فاطمة نوافذها
هذا شعري جرح في جفن الورد [12]
إن لغة الذات التي يحملها هذا المقطع تحمل من الصور الشعرية ما يجعل الدلالة بعيدة المنال، ولا يمكن أن نصل إليها دون التوغل في سياقاتها وتحليلها. كما أن التمعن في القرائن التي تتعلق بمعجم الطبيعة : البحر، الموج، الشطآن ، الشاطئ، الأسماك .. والثلوج ، الورود ، … تحيلنا على تقديم صورة استعارية كبرى للقصيدة. ويجعل من السطرين الأخيرين مفتاحا مساعدا على تأويلنا.
وبذلك نكون هنا أمام السياق المعنوي، وكما أن المعنى لا يتحقق دون ألفاظ، فكذلك الأمر على المعنى والمعنى الموالي، لا يتم التحقق من العلاقة القائمة بينهما دون تحليل كل كلمة في ارتباطها بملازمتها، يقول عبد الكريم حسن وهو أحد الباحثين في هذا المجال:" يثبت تحليل المعنى لأي كلمة وجود نوعين من السمات المعنوية فيها، فهناك السمات الملازمة Traits inherants والسمات النصية Traits contextuels فأما السمات النصية فهي ما تتطلبه الكلمة من السمات الملازمة التي ينبغي على الكلمة الأخرى - الراغبة في عقد علاقة معها- أن تحملها. فكل كلمة ترغب في عقد علاقة مع كلمة أخرى تحمل إشارات تومض طلبا لكلمة أخرى ذات نوع خاص من السمات الملازمة." [13]
نعود إلى نص محمد بنعمارة ونحاول أن نحقق هذا التحديد النظري، ذلك أن السمات الملازمة التالية: (البحر وزوابعه) و( موكب عشقي) و(رائحة العشق) و( العشق المشنوق) و(شعري جرح) و( جفن الورد) … وغيرها من التعابير التي تتناثر في شعر محمد بنعمارة ترتبط فيما بينها كي تؤدي وظيفة تصويرية، وقراءتها ( القراءة النموذجية) لا تتأتى إلا بالتركيز على السمات النصية أو السياق العام، بالتقديم والتأخير، وإسناد فعل لفاعل، وإضافة … كي نصل للدلالة.
فالشاطئ هو القصيدة يأتيه البحر الشعري بقوافيه، ويُتوَّج بموكب عشق الشاعر أي الألفاظ والمعاني المعبرة عن عشقه… وكل هذه التأويلات لا يمكن أن تقبل دون أن ننظر في السياق العام لشعر محمد بنعمارة. [14]
إن الحديث عن السياق يجرنا في نهاية مطاف هذه المرحلة لتوضيح سمة التجربة الشعرية التي تبنينا موقف الذهني والواقعي في محاولة تعريفها. لذا فإن تشخيص الحالة الثانية في مجاراة الواقع، ومحاولة التعبير عن مشاكل الأمة. وكون التجربة تشكل السيرورة التي يمارس فيها الشاعر تحولاته، فإنه في المرحلة الحالية توجهت دلالاته نحو تحديد موقفه من قضايا محلية وعربية. وقد قلنا سابقا إن الجانب الذهني والواقعي كان طغيانه واضحا، خاصة في المعجم  الذي تطغى عليه ألفاظ التحدي والممارسات السياسية [15].
كثيرة - هي - مثل هذه الدلالات ، مع ذلك يمكن أن نختار مقطعا دالا على الخصومات العربية وعدم التوحد، والحالة التي صارت عليها. والمقطع من قصيدة ( الظمأ المستوطن في القلب)، فالشاعر وإيمانه بالمفاهيم السابقة للنص الشعري، باعتباره  نفض الغبار عن الماضي، وبتشكيلته الحالية المبنية على الإيحاء والإيماء، ليبدأ قصيدته بحديث مطول عن تجربته:
أصغر من زورق عصياني
يكبرني  رفضي
وكحرباء براري.. تتغير ألواني..
إلى أن يصل إلى معاناة الوطن العربي:
تدور لوالبنا.. بين جنيف.. ومعطف خلفاء كسنجر
وملفات " كرملين"
معاوية بشعرته
يرفع أعلام سلام
عفوا.. أعلام هزيمة سكان الصمت [16]
يعد اختبار النماذج الشعرية كاف للتدليل على عمومية هذا النوع، وفي نفس الوقت لا ننفي التداخل بين مرحلة تجربة شعرية وأخرى. ونسعى أن نبرز الجوانب العامة لنكتشف أهم جوانب التحولات.

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

ادب   شعر   كتاب