ثمة جدل يخفت حيناً ويرتفع أحياناً حول أدوار ومصائر المسيحيين العرب في ظل ثورات الربيع العربي... وثمة انقسام حاد في أوساط المسيحيين أنفسهم حول هذه المسألة...منهم من رأى في الثورات العربية فرصة للخلاص من نظم فاسدة وديكتاتورية، وأتبع ذلك بالانخراط بأشكال متفاوتة في النضالات المتراكمة لإسقاط هذه الأنظمة، وثمة رموز وأسماء كبيرة محترمة برزت في هذا المضمار، وخبرت السجون والمنافي....ومنهم من لم يرَ في هذه الثورة، سوى “التهديد” الذي يطاول الوجود والحقوق والمكتسبات، فآثر الجلوس على مقاعد “النظّار” و”المتفرجين”، أو انخرط في الدفاع عن الديكتاتورية، بوصفها الضمانة للحقوق والحامية للوجود، متخذاً من صعود الإسلاميين إلى مواقع السلطة والقيادة والحكم مبرراً لإبداء الخشية والتعبير عن القلق.
والمؤسف حقاً أن هذا الجدل إذ يحتدم ويتصاعد يدفع بالمتحاورين للانحياز والمبالغة والاصطفاف وأحياناً يفضي بهم للوقوع في براثن “حالة إنكار” تجعل الوصول لحلول ومخارج، أمراً عسيراً... فالذين يستفيئون بظلال نظم الفساد والاستبداد، يتجاهلون حقائق أن الديكتاتوريات بطشت بالجميع، مسلمين ومسيحيين، علمانيين ومتدينين، حتى أن رجل الشارع العادي لم ينج من عسفها وظلمها.
والذين يسعون في تصفية حسابات مع نظم أخرى، كما هو حال بعض مسيحيي لبنان والنظام السوري...يريدون الخلاص بأي ثمن، لأن معركتهم وأهدافهم تقع في مكان آخر، غير مستقبل مسيحيي تلك البلدان ومصائرهم... حتى أن بعض رموزهم أخذوا ينبرون لنفي وجود تيارات متشددة في أوساط الحراك السوري المسلح، ويقطعون أغلظ الإيمان بأن لا تهديد من أي نوع، يواجه المسيحيين بعد رحيل الديكتاتورية، بل وتصدوا ببسالة لكل من سوّلت له نفسه، أمر الحديث عن وجود للقاعدة في سوريا أو لبنان.
والخلاصة التي يخرج بها المراقب للتغييرات التي تشهدها المنطقة منذ الإطاحة بنظام صدام حسين وحتى يومنا هذا، يلحظ شيئاً مغايراً تماماً لوجهتي النظر السالفتين....فمستقبل المسيحيين ومواطنتهم في هذه الدول، لا يمكن أن يكونا مضمونين في ظل نظم الفساد والاستبداد...وحتى حين تعمل الديكتاتوريات على تقريب المسيحيين من دوائرها الحاكمة فذلك لأنها تراهن على أثر “حالة الخوف” التي تشيعها هي بالذات في أوساطهم، طمعاً بكسب ولائهم وتأييدهم...ولنا في تاريخنا الحاضر، الكثير من الدروس والعبر عن الكيفية التي لعبت بها نظم الفساد والاستبداد بورقة “الأقليات”، ومن ضمنها: المسيحييون أنفسهم.
في المقابل، يثير صعود بعض تيارات التطرف والغلو الإسلامي، بشقيّة السنّي والشيعي، الكثير من القلق في أوساط بقية التيارات والمكونات السياسية والاجتماعية، فهذه تيارات استئصالية، إقصائية في جوهرها ومضمونها، ومن المؤسف حقاً أن يجري التغاضي عن أدوارها المضادة للثورة التي تمارسها من تحت إبط الثورة وشعاراتها...هذه التيارات شكلت من قبل، وهي تشكل اليوم، تهديداً وجودياً، لا للمسيحيين فحسب، بل ولمختلف التيارات الأخرى كذلك، وليس من الحكمة في شيء، بل إنها الانتهازية الخالصة أن يُدار الظهر لدور هؤلاء وأثرهم التخريبي على مجمل ثورات الربيع العربي.
بالطبع، ليست جميع التيارات الإسلامية استئصالية وإقصائية، والمؤكد أنها تتفاوت فيما بينها من حيث نظرتها لحقوق المواطنين غير المسلمين، على أن معظم هذه التيارات، تنتقص بهذا القدر أو ذاك من “مواطنة” هؤلاء، وهذه حقيقة سنتعامل معها إلى حين، ويجب أن تبذل جهودٌ مكثفة لتطوير خطاب مدني وديمقراطي بمرجعية إسلامية، ينظم عمل هذه الحركات والتيارات.
لسنا في الحقيقة من أنصار اصطفاف المسيحيين خلف نظام الأسد كما تفعل بعض تياراتهم في لبنان...ولا نحن من أنصار إغماض الأعين عن التحولات الخطرة التي تشهدها تركيبة المعارضة السورية بفعل “الدعم العربي” لبعض تيارات ومدارس الإسلام السياسي العنيف والمتطرف فكرياً وعملياً، لا لشيء إلا لأن بعض مسيحيي لبنان يريد أن يصفي حسابات مع حلفاء دمشق على الساحة اللبنانية...والأهم من هذا وذاك، أننا لا نرى “حلاً مسيحيّاً” لمشكلة المسيحيين في دول الثورات العربية، فالحل إما أن يكون ديمقراطياً ويشمل الجميع، أو لا يكون.
نريد للمواطنين المسيحيين العرب أن ينخرطوا بقوة في عملية الإصلاح والتغيير التي تشهدها دولنا ومجتمعاتنا....وأن يفعلوا ذلك من خلال الانخراط على أوسع نطاق، في صفوف الحراكات المدنية والديمقراطية السلمية، فيكونوا بذلك ذخراً ورصيداً، لشعبهم ومستقبل أوطانهم، فلا مشكلة بين المسيحيين والمسلميين فقد عاشوا وتعايشوا تاريخياً إخوة ومواطنين، المشكلة الجوهرية بين الديكتاتوريات وشعوبها بكل مكوناتها...بين المتطرفين والاستئصاليين ومجتمعاتهم بكل مكوناتها أيضاً.
أما نحن “معشر الأكثريات” الذين اعتدنا أن ننظر باستخفاف أو عدم تقدير كافٍ على الأقل، لمخاوف المواطنين المسيحيين، فعلينا أن نتذكر ما الذي حل بهم في العراق، وأية مشاكل واجهوا في مصر مبارك وما بعد مبارك...وأن نقرأ بمزيد من القلق تناقص أعدادهم المؤسف والمحزن...وأن نتفحص خطاب بعض الحركات الأصولية المتطرفة الناشطة في الثورة السورية...علينا أن نقرأ جيداً شعارات ومضامين “فقهاء الظلام” من عرعوريين وغيرهم.
في المقابل، تقلقنا رياح التطرف والانعزال والانكفاء، التي بدأت تتغلغل في بعض أوساط المسيحيين العرب، تقلقنا النزعات “الإقليمية” و”التغريبية” و”الانعزالية” التي يتسم بها خطاب البعض منهم...وندعو لحوار يتخطى الهياكل والأطر البروتوكولية والدعائية الجامدة، التي تنتهي مفاعيها، بمجرد عودة المشاركين في انشطتها إلى بيوتهم و”يومياتهم” المعتادة...نريد خطابا وطنياً ناهضاً على قاعدة المواطنة المتساوية للجميع، حقوقاً وواجبات، فنحن جميعاً مواطنون، ولسنا رعايا ولا ذميين.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور