للداعية الإسلامي عدنان سعد الدين
إنّها سنوات المجازر المروّعة، والإبادة الجماعيّة، والمحاكم العرفيّة، سنوات القمع والرعب والخوف، سنوات المآسي والنكبات في زمن الصمت والنفاق.
سفكت دماء الإسلاميين خارج نطاق القانون، وجرت تصفيات جسديّة في الشوارع، وارتكبت جرائم في وضح النهار بمسدّس السلطة، وقتل الآلاف تحت التعذيب في الأقبيّة ومراكز التحقيق، وأعدم المعتقلون في الزنازين، وضربت مدن براجمات الصواريخ، ودفع الأحرار ثمن مواقفهم قتلاً وسجناً وتعذيباً ومطاردة، وفي مقدمتهم العلماء، والمحامون السوريّون، والمعلّمون وأساتذة الجامعات.
واتسعت دائرة الفساد في غياب الرقابة الشعبيّة، فسرقت مؤسّسات الدولة والقطاع العام والمصانع المؤمّمة في وضح النهار، وانتشر داء الرشوة والمحسوبيّة وسرقة المال العام، واستنذفت الثروة النفطيّة ونهبت عائداتها، وكان الاقتصاد في وضع لا يحسد عليه فانخفضت قيمة الليرة السوريّة، وازداد معدّل الفقر والبطالة والجريمة.
في تلك الفترة العصيبة كانت الحرب الأهليّة اللبنانيّة مستعرة، فغزت إسرائيل جنوب لبنان، واستبيحت دماء الفلسطينيّن في حرب المخيّمات وتل الزعتر، وانتزع سلاح المقاومة، وجرى تمزيق وحدة منظمة التحرير الفلسطينيّة، وسحقت الجبهة الوطنيّة اللبنانيّة، وانحازت سوريّة إلى جانب إيران في حربها على العراق، وإلى جانب الاتحاد السوفييتي في احتلاله لأفغانستان.
وأفّر قانون العار رقم 48 لعام 1980 ـ الذي ينص على اعتبار كل منتسب لتنظيم الإخوان المسلمين مجرما يعاقب بالإعدام ـ برفع الأيدي في مجلس الشعب، وجرى التصديق عليه في يوم واحد، فشكّل الغطاء القانوني ومسوّغات ارتكاب أعمال الإعدام دون محاكمة، بسبب تعطشه للدماء، وقتل في ليلة واحدة بدم بارد نحو ألف سجين في سجن تدمر وحده، وكان الإعدام شنقاً في السجون يجرى أسبوعيّاً على مدى سنوات، وقدّر عدد أصحاب الأخدود ممن أعدموا في السجون بسبعة عشر ألف شهيد من النخبة السوريّة المثقّفة، دفنوا في جوف الصحراء.
وتفتقت عقليّة رفعت الأسد أحد أعمدة النظام في خطاب دموي مثير عن إصدار قانون التطهير الوطني، وإنشاء معسكرات للخاطئين وطنيّاً في الصحراء، وعزل المرضى قوميّاً والمنتمين إلى الهرطقة الدينيّة، وأوصى المؤتمر القطري السابع للحزب بإغلاق المساجد التي تستخدم مدارس لتخريج الفكر الطائفي الهرطقي.
وزعم رفعت في خطابه التحريضي المسموم أنّ الإخوان يسلبون البسطاء والفقراء حقوقهم، وهو الذي قدّرت ثروته التي جمعها من أقوات الفقراء والمغفّلين بسبعة عشر مليار دولار.
يقول الأستاذ عدنان سعد الدين: ما أجرأ هذا الطاغية على الافتراء، وفبركة الاتهامات التي تثير الاشمئزاز، وتذكّر القارئ بإخوان الصفا والحشاشين.
ويضيف قائلاً: لقد جدّدت حركة الإخوان المسلمين في الوطن العربي للأمّة دينها وفكرها، وحرّرت جماهيرها من الخرافة والتخلّف، ودفعت بها إلى ساحات العلم والنهوض الثقافي والحضاري.
وكشّر الطائفيّون عن أنيابهم الزرق، فاسرفوا في سفك الدماء، وجرت سلسلة طويلة من الاغتيالات طالت عدداً من رجالات سوريّة وأبناءها الأوفياء لا يتسع المقام لذكر أسمائهم والحديث عن مزاياهم, ونفّذ حكم الإعدام شنقاً في خمسة عشر أخاً كانوا معتقلين قبل حادثة المدفعيّة، فور صدور الأحكام في محكمة فايز النوري، واعترف مصطفى طلاس نائب الحاكم العرفي في حديث له مع صحيفة ألمانيّة أنّه كان يوقّع على أحكام إعدام بلغت الألوف دون أن يبلّغ ذووهم عن إعدامهم، لكنّ تكبيرات الشهداء وهم يساقون إلى ساحات الإعدام كل ثلاثاء، ودعاء المظلومين في السحر ستلاحق الشياطين الخرس وكل من شارك في هذه الجريمة.
وظنّ الناس وقد نبت المرعى على دمن الثرى أنّ التقادم والنسيان قد طويا مجزرة حماه، ومجزرة جسر الشغور، ومجزرة مقبرة هنانو، ومجزرة تدمر، ومجزرة سرمدا، ومجزرة بستان القصر التي تمّ فيها إعدم 120 امرأة كنّ رهينات في سجن الرستن، وغيرها من المجازر التي تقشعر لهولها الأبدان.
فجاء هذا الكتاب ليذكّر السوريين خاصّة و(المخدوعين من الإخوان المسلمين في البلاد العربيّة) بعدالة قضيّة الإخوان في سوريّة، ويكشف الحقائق المغيّبة عن الرأي العام، ويميط اللثام عن الظلم والتعسّف الذي طال أبناء الحركة الإسلاميّة في سوريّة على مدى ثلث قرن ولا يزال.
يروي المؤلّف عن عضو القيادة القوميّة لحزب البعث العراقي سليمان عبد الله الذي مكث في السجن 22 سنة بين عامي: (1972 ـ 1994) أنّه عندما صدر أمر بنقل أحد الذين يديرون سجن تدمر، أراد أن يقدّم عملاً بطوليّاً خارقاً بين أيدي الطغاة قبل أن يغادر السجن إلى مقر عمله الجديد، فطلب إحضار عشرة أطباء من معتقلي الإخوان، فتسابق الأطباء بتقديم أنفسهم عندما ناداهم السجّان، ظناً منهم أنّ إدارة السجن سوف تستخدمهم في الخدمات الطبيّة، وكان مما يفرضه نظام السجن في تدمر أنّ المعتقل إذا نودي عليه يحضر ورأسه منكّس إلى الأرض، أو متجه إلى الخلف، كيلا تقع عينيه على من يناديه أو يستجوبه، أو يحقّق معه، وكان السجّان المنقول مدرّباً أو مختصّاً بالقتل عن طريق الخنق أو كسر الحنجرة والبلعوم بيده، فدخل الأطباء واحداً بعد آخر، وكل من يصل إلى السجّان رأسه وعنقه منحنيان إألى الخلف، ورقبته بارزة من الأمام، مدّ السجّان يده إلى عنقه وكسر حنجرته وبلعومه ليقع على الأرض، ثم يحمل بعيداً ليرمى في القبور أو الأخاديد الجماعيّة، وهكذا حتى انتهى من قتل الأطباء العشرة بهذه الطريقة الوحشيّة.
يقول المؤلّف: أصاب الجالسين وعددهم يتراوح بين (10 ـ 15) الذهول والهلع والاشمئزاز وهم يستمعون إلى القيادي البعثي وهو يروي هذه الفاجعة.
أمّا القصّة الثانية التي رواها القيادي سليمان عبد الله فندع روايتها للكتاب، خشية على البكائين وأصحاب الأزمات القلبيّة.
فأي نوع من البشر هؤلاء السفّاحون؟ وأي حقد دفين هذا الذي تنطوي عليه صدور هؤلاء القتلة؟
ويتعالى الإخوان على الجراح، رغم القتل والتشريد ويواصلون المسيرة، ويعكفون على إصدار بيان الثورة الإسلاميّة ومنهاجها، مبشّرين بانتصار الإسلام الحتمي، مستلهمين فكر الإمام الشهيد المؤسّس، ويطرحون المنهج العملي للمجتمع الإسلامي والحكومة الإسلاميّة، وأسس الدولة، وبرامج السلطة.
يقول الأستاذ سعد الدين: عكفت على كتابة بيان الثورة منذ اليوم الأوّل من رمضان المبارك عام 1401 من الهجرة النبويّة، وهو يوم وصولي إلى المدينة المنوّرة، واداء واجب التحيّة لمن أرسله الله رحمة للعالمين مبشّراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، ثم شرعت في الخلوة المباركة لإعداد المنهج والبيان، فلم يأت اليوم الأخير من رمضان المبارك إلاّ وكان المنهاج قد اكتمل، فنسخنا عنه اثنتي عشرة نسخة في صباح يوم العيد، بعثت بها إلى قيادة الإخوان في سوريّة، وإلى الأخوة أعضاء مكتب الإرشاد، وإلى عدد من قادة الإخوان في العالم العربي، فلم يعترض أعضاء مكتب الإرشاد بأي اعتراض، وأيّده أعضاء القيادة بالإجماع، فدفعت به إلى النشر والتوزيع على نطاق واسع، وتمت ترجمته إلى جميع اللغات الحيّة، وصدر البيان والمنهاج بتوقيع ثلاثة أخوة هم: سعيد حوّى، وعلي البيانوني، وعدنان سعد الدين.
ولقي البيان والمنهاج بعد صدورهما اهتماماً كبيراً لدى الحكومات، وأجهزة الأمن، ورجال السياسة والفكر، وعقدت ندوات عديدة لمناقشه.
وجاء البيان كمدخل للمنهاج، وتفسيراً للأحداث، والصراع الذي نشب بين أبناء الدعوة ومن والاهم من المؤيّدين والمناصرين، ومن خالفهم من المعارضين، وبين السلطات.
وينشر المؤلّف في مجلده الرابع الذي بين أيدينا نص البيان الذي وصف بأنّه قطعة من الأدب السياسي الرفيع، وتضمّن منهاج الثورة الإسلاميّة ما يلي:
في السياسة الداخليّة: الحياة الدستوريّة والقضائيّة، والأوضاع الاقتصاديّة، والشؤون العسكريّة، والوضع الفكري والتربوي، والحالة الاجتماعيّة، والصحّة العامّة.
وفي السياسة الخارجيّة: الوحدة العربيّة، والقضيّة الفلسطينيّة، والعالم الإسلامي، والعلاقات الخارجيّة.
ويتحدّث الأستاذ سعد الدين عن المآسي والنكبات التي امتدّت بين عامي: (1981 ـ 1983) خلال فترة انشغال التنظيم السوري للإخوان بإعداد البرامج والمناهج، كان النظام يمعن في القتل، والاغتيال، وسفك الدماء، والمجازر الجماعيّة، حتى أضحى المواطن السوري مسكوناً بالخوف والرعب، فلم يجرؤ مواطن على المعارضة، أو الإنكار على ما يحدث، أو حتى على تقديم النصح.
وصمتت الحكومات والمنظّمات الدوليّة، وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان، فانتقلت أعمال القتل إلى خارج سوريّة لتصفية خصومها فيما وراء الحدود، وإسكات كل صوت حر، فاغتيل صلاح البيطار في فرنسا، وسليم اللوزي، وكمال جنبلاط في لبنان، ونزار الصبّاغ في إسبانيا، وعبد القادر ودعة في يوغسلافيا، وبنان الطنطاوي العطار في ألمانيا وغيرهم.
وكانت محاولة اغتيال الوطني الغيور مضر بدران رئيس وزراء الأردن، حيث أصدرت وزارة الإعلام الأردنيّة كتاباً ضمّنته أسماء المشاركين في الجريمة وصورهم واعترافاتهم المذهلة، ومنهم مشاركان في مجزرة تدمر، وصرّح وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد إلى صحيفة الواشنطن بوست بتاريخ 16/2/1981: إنّ سياسة سوريّة ترمي إلى معاقبة الأردن.
ويروي المؤلّف تفاصيل مذهلة عن محاولة اغتيال السيّد بدران نقلاً عن كتاب الوثائق الأردنيّة واعترافات المتهمين، وموقف الرأي العام الأردني المشرّف وصحافته الحرّة من المؤامرة وجريمة العصر في تدمر.
ويتحدث المؤلّف بالأرقام، نقلاً عن صحيفة البعث السوريّة عن موجة نزوح العلماء والأطباء والمهندسين والمثقفين إلى الخارج بحثاً عن الملاذ الآمن.
ويعرّج المؤلّف على موقف سوريّة من احتلال الاتحاد السوفييتي المقبور لأفغانستان وينقل من خطاب الرئيس في مؤتمر الحزب الثالث عشر قوله: من وجهة نظرنا فإنّ أفغانستان ليست بلداً إسلاميّاً، بل هي بلد شيوعي، وإن كنتم لا تقرّون بهذا الأمر، فأولى بنا أن لا نقر بالجمهوريّات الإسلاميّة الموجودة داخل الاتحاد السوفييتي.
وبينما كان العالم يتستّر على ما يجري في سوريّة من مجازر، كانت الأموال تتدفّق بسخاء على النظام وكأنّها مكافأة على ذبح الإسلاميين.
في تلك الفترة العصيبة من تاريخ سوريّة وقعت نكبة حماه الكبرى، وما أدراك ما نكبة بني قيس في حماه، الذين وصفهم الرسول (ص) فقال: إنّ قيساً فرسان الله في الأرض، إنّما قيس بيضة أهل البيت، إنّ قيساً ضراء الله (أي أسد الله).
ويتحدّث المؤلّف عن تاريخ المدينة التي أحبّها، فيعرّج على مملكة حماه الأيّوبيّة (التي أفرد لها كتاباً خاصّاً) ويروي ملاحم صمودها في وجه الحملات الصليبيّة، وانتفاضاتها الشعبيّة ضدّ الاستعمار الفرنسي والخونة من جيش الشرق الفرنسي، ومؤامرات الباطنيّة عليها، وكأنّه يعلّل ما حدث لحماه وقد أضحت كأنقاض بعض المدن الألمانيّة المدمّرة عقب الحرب العالميّة الثانية، بأنّه انتقام للصليبيين والحشّاشين.
ويصف الانسداد السياسي الذي وصلت إليه البلاد، حيث لم يبق للمفكّرين والمثقّفين ورجال الدين في ظلّ هذا الحكم القمعي الشمولي مجال لطرح أفكارهم، وفضح الممارسات الخاطئة، والمطالبة برفع حالة الطوارئ، وإلغاء المحاكم الاستثنائيّة، وإعادة صلاحيات التقاضي إلى القضاء المدني، واستقلال السلطة القضائيّة عن السلطة التنفيذيّة، واحترام مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإجراء انتخابات حرّة، سوى دور العبادة والنقابات والجامعات.
وكان رد النظام على هذه المطالب مزيداً من الاعتقال والقتل وانتهاك حرمة بيوت الله، وما ابتدعه من استباحة بيوت المواطنين خلال تمشيط المدن والقرى، فأبيدت أسر بكاملها، وكانوا يسحلون من يقتلون بالدبابات والسيّارات لنشر الرعب والإرهاب في قلوب المواطنين.
ويتحدّث عن الأيّام العصيبة في حماه وهي تعيش نكبتها، وعن مراحل التحضيرات الثلاث لهدم المدينة، التي استمرت شهراً كاملاً، وما رافقها من حصار وقصف عشوائي وقتال شوارع، وتعتيم إعلامي، فيقول: ذاق أبناء المدينة نيران الحرب وزمهريرها، كانوا ينامون على مذبحة، ويستيقظون على أخرى.
ويدوّن أسماء المساجد والزوايا والمؤسّسات الدينيّة التي دمرت، والقصور التاريخيّة التي أحرقت، والنواعير التي هدمت، والأحياء التي قصفت، والأسر التي أبيدت، ويروي أنماط التعذيب، وأساليب الإبادة الجماعيّة والقتل والنهب والانتقام، ويصف الحقد والبغضاء التي تملأ قلوب القتلة، نقلاً عن ناجين من أبناء المدينة المنكوبة.
ونكتفي من الأحداث الرهيبة والمرعبة التي رواها المؤلّف وقائع مجزرة منزل الدكتور زهير مشنوق حيث وجد طفل رضيع عمره خمسة أشهر، بعد ستّة أيّام من المذبحة حيّاً يرضع من صدر أمّه الشهيدة دماً، فلم يفارق الحياة لنتصوّر حجم المأساة.
ويروي هذا الكتاب الوثائقي سير العمليات، والوحدات العسكريّة المشاركة، وأسماء قادتها، ورتبهم العسكريّة، وأسماء القبور الجماعيّة ومواقعها.
ويختم مأساة حماه بذكر أمنية أطلقها القائد الفذ !! رفعت الأسد كان القتلة يحرصون على تحقيقها: سيذكر التاريخ أنّ مدينة كانت هنا اسمها حماة.
يقول المؤلّف: إنّنا لم نسمع في تاريخ الإنسان أنّ قوات معادية قامت بقتل المدنيين على هذه الشاكلة، ولا سيّما النساء والأطفال والمسنون.
وأنّ مقاومة السكان في المدينة لم تكن في الحقيقة أعمالاً مخطّط لها، ولم تكن انتفاضة شعبيّة مدروسة، بقدر ما هي دفاع عن النفس بعد أن جاءها الموت من فوقها ومن تحت أرجلها، ويطالب بعقاب القتلة، وعدم طيّها بالتقادم لأن كارثة حماة مأساة القرون، وأن ما أصاب حماه أفدح مما وقع لروما.
مجلدات أربعة مثيرة، دوّنها الأستاذ عدنان سعد الدين، لكن المجلّد الرابع وملحقاته الثلاثة الذي بين أيدينا أكثر إثارة، وأكثر توثيقاً، لا بدّ من قراءته بإمعان ليدرك الجميع حقيقة ما جرى في حماه، وحجم نكبتها، وليعلموا أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين.
المراجع
رابطة ادباء الشام
التصانيف
ادب شعر كتاب