لم تحصل المعارضة السورية، على ما كل أرادت من مؤتمر "أصدقاء سوريا"، لكنها لم تخرج من "مولد اسطنبول بلا حمص"...وبخلاف ما تروج له "بروباغندا" النظام، فإن مؤتمر اسطنبول لم يكن نسخة مكررة عن مؤتمر تونس، وهو بالتأكيد، لم "يُفرج" عن النظام، بل أضاف إلى أطواق العزلة والحصار التي تحيط به، أطواقاً جديدة.

المعارضة وحلفاؤها العرب والإقليميون، ذهبوا إلى اسطنبول على أمل الحصول على قرارات أكثر وضوحاً وحزماً و"اقتصاداً" من ناحية الزمن والآجال والمهل الزمنية...طالبوا بالاعتراف بالمجلس الوطني السوري ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب السوري، حصلوا على "ممثل شرعي"...أرادوا "قطع الطريق على مهمة عنان" التي انتقدوها في العلن بوصفها "فرصة إضافية للقتل"، لكنهم نجحوا فقط في "تكبيل الموفد العربي/الأممي" بجداول زمنية...أرادوا تسليح الجيش السوري الحر، فحصلوا على رواتب لأفراده ومرتباته...أرادوا مناطق آمنة وممرات إنسانية، فحصلوا على مزيد من الإغاثة، أو الوعد بها...أرادوا تقديم مبادرة "التنحي" فخرج البيان بحث النظام على "استغلال آخر الفرص".

في المقابل، يُدهش من يتابع الإعلام السوري، وبالأخص، الإعلام اللبناني الحليف لدمشق، وهو يوصّف "مؤتمر اسطنبول" بالفشل والخيبة والعجز، إلى غير ما هنالك...صحيح أن المؤتمر لم يدعُ لتنحي الأسد أو إسقاطه، لكنه منحه ما يُعتقد أنه "آخر الفرص"...وصحيح أن المؤتمر لم يسقط مهمة كوفي، بل دعمها وأثنى عليها، بيد أنه كبّلها بجداول زمنية، ستصدر عن مجلس الأمن، وعلى الأغلب بالتنسيق مع روسيا والصين اللتين ضاقتا ذرعاً بمماطلة النظام وتلكؤه في إنجاز ما وعد بإنجازه من إصلاحات...صحيح أن المؤتمر لم يقرر منح تركيا غطاء لفرض مناطق آمنة أو فتح ممرات إنسانية، لكن الملف لم يغلق، بل تأجّل، والكرة الآن في ملعب كوفي عنان...صحيح أن المؤتمر لم ينجح في توحيد المعارضة التي اعترف بمجلسها ممثلاً شرعياً للشعب السوري، لكن النظام في المقابل، لم يسكب معارضة الداخل، بل نجح في جعل حياتها صعبة للغاية...ومن يتتبع نبرة معارضة الداخل، يرى أنها تقترب وإن بخطى بطيئة، من خطاب معارضة الخارج، خصوصاً لجهة المطالبة بإسقاط النظام بكل رموزه وهياكله، والمقاربة الجديدة من الجيش السوري الحر، فضلا بالطبع عن المطالبة بحكومة تخضع لها كافة الأجهزة المدنية والعسكرية، وتتمتع بالولاية الكاملة، وهو مطلب "أعلى سقفاً" من طلب تفويض الرئيس بعض صلاحياته لنائبه.

على أية حال، لم يبق في الساحة إلا مبادرة كوفي عنان...وفي ظني، وليس كل الظن إثم، أن هذه المبادرة تشكل الفرصة الأخيرة، لا للنظام فحسب، بل وللمعارضة كذلك...إنها فرصة أخيرة لسوريا، وهذا هو الأهم كما ذهبنا للقول منذ اليوم الأول لإعلان المبادرة...هي فرصة للنظام للخروج من مأزق الحل الأمني/ العسكري المأزوم حتماً، وقد دللت التجربة أن هذا الطريق مسدود وليس نافذاً، وبرهن النظام أنه أعجز من أن يكسب الحرب حتى وإن ربح بعض معاركها وجولاتها...وهي فرصة كذلك للمعارضة، لتمكينها من الهبوط من على شجرة "العسكرة" و"التسلح" و"التدخل العسكري"، فالقادرون على التدخل العسكري لا يريدونه، والمطالبون به عاجزون عن تنفيذه...هي فرصة لحل سياسي يفرض على النظام (وعلى بعض متطرفي المعارضة كذلك)، ودائماً تحت الضغط الشديد، لتحقيق أهداف التحول الديمقراطي في سوريا، من خلال عدة قفزات، بعد أن تعذر إنجاز المهمة بقفزة واحدة.

وهي فرصة لسوريا لتفادي الإنزلاق في أتون حرب أهلية مدمرة، أطلت برأسها البشع من حمص...فتقارير الصحافة الغربية (لا تقارير النظام ولا المعارضة) تتحدث عن جرائم قتل مذهبية وطائفية الطابع وواسعة النطاق، ولم يعد من الممكن مواصلة "حالة الإنكار" سواء من قبل المعارضة (التي تكتفي بإدانة جرائم النظام) أو من قبل النظام (الذي يحمل المعارضة وزر كل الجرائم المرتكبة)...تقارير الصحافة الغربية، تؤكد وقوع أسوأ ما في كوابيسنا، والمذبحة ما زالت مستمرة.

لن يصغي النظام طائعاً لبنود عنان الست...سيفعلها كارهاً ومرغماً، خصوصاً إن نجحت "الدبلوماسية الدولية" تحديداً (لا دبلوماسية عند المعارضة)، في إقناع روسيا بالانضمام للجهد الدولي المؤيد لمبادرة عنان...وثمة دلائل تشير على أن أمراً كهذا بات ممكناً اليوم، وبالذات بعد قمة سيئول بين أوباما وميدفيدف...وأبواب طهران ليست مغلقة تماماً أمام تسويات وصفقات، يتعين إبرامها إن أردنا للأزمة أن تنتهي "على خير"، وأن تنتهي سريعاً، سيما وأن إيران أطلقت عدة إشارات دالة على استعدادها للبحث في أمر كهذا، بعيداً عن التدخل العسكري المباشر، وهي رحبت بمبادرة كوفي عنان، وقد تستقبل الموفد الأممي قريباً.

بالنسبة للأطراف العربية التي تستعجل "تسوية الحساب" مع إيران في سوريا وعلى حسابها، هذا ليس خياراً...لقد عبّروا عن ذلك صراحة...لقد اجتاحتهم حُمّى التسليح والتدخل العسكري...لقد حرقوا سفنهم وقطعوا خطوطهم مع "الديبلوماسية"، تساندهم في ذلك تركيا التي باتت ترى في عنان ومبادرته، جزءا من المشكلة وليس جزءاً من الحل...لكن خطاب هذه الأطراف، لم يجد رواجاً بعد على الساحتين الإقليمية والدولية...وأخطر ما يمكن أن تواجهه المعارضة السورية، هو أن ترهن نفسها وقرارها لهذه الأطراف...لهؤلاء حساباتهم وأجنداتهم، التي نخشى على المعارضة وسوريا منها، خصوصاَ الجانب العربي من المعادلة.

ثمة أفق لمخرج سياسي، بعد أن استعصى الحسم الأمني والعسكري على النظام والمعارضة على حد سواء، وهذا الأفق فتحته مبادرة كوفي عنان، وأحسب أن بديلها حتى إشعار آخر، لن يكون سوى الفوضى والتوتر الإقليمي والحرب المفتوحة في سوريا، والتي قد تتطاير شراراتها لتطال الإقليم المنقسم على نفسه.

على المعارضة أن تختبر فرصة عنان الأخيرة...وأن تتقدم بمبادرات ومقترحات، تجعل حياة النظام صعبة للغاية...يقولون أن تمكين السوريين من ممارسة حقهم في التظاهر السلمي (حسب عنان)، سيخرج طوفاناً بشرياً يحاصر الأسد في قصره الجمهوري...لا بأس، لماذا لا يجري العمل على هذه النقطة بالذات...لماذا لا يطلب إلى عنان ضمان هذا البند من مبادرته فحسب، مستغلاً مزاعم النظام عن التفاف ملايين السوريين من حوله...دعونا نحتكم للشارع توطئة للاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

أخشى على المعارضة من "الصناديق" التي أقرها مؤتمر اسطنبول...نحن نعرف من سيملأها بالمال...ونحن نعرف أن "من يدفع للزمار ليسمع ما يروقه"...والمرشحون للقيام بهذه المهمة، هم جزء من الثورة المضادة في سوريا، وليسوا جزءا من الثورة، فالحذر الحذر من الارتهان لأجندات هؤلاء ومشاريعهم...لقد رأينها في كل ساحات الربيع العربي، ورأينا رؤية العين، كيف أنها لم تجلب سوى الخراب وفقهاء الظلام وخطاب العصور "القروسطية".


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور