يقول الله تعالى : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ))(1) .
 هو أعلم بما جاء به ، فهو سبحانه صاحب القرآن ومنزله على رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو الذي يحفظه من التحريف والتبديل والتلف ، والقادر على ذلك ، وهو الذي يأمرنا ـ سبحانه ـ إذا غاب عنا أمرٌ من الأمور أن نلجأ إلى من هو عالم به ، عارف بأحواله ، عنده الحل عن دراية وخبرة .
 ففي حالة المرض نلجأ إلى الطبيب لا إلى بائع الحليب .
 وفي الرغبة في بناء منزل جديد نلجأ إلى المهندس ومقاول البناء ، لا إلى المزارع وبائع الدبّاء .
 وفي الأمور الشرعية ـ إن استغلق علينا فهم حكم شرعي ـ نستفتي العالم والفقيه ، لا الصانع والتاجر النبيه . . .
 والقرآن كما علمنا ويعلمنا دائماً ينبه إلى إيصال الأمر إلى أهله فيقول : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ))(2) وليس المقصود بالذكر فقط الفقه والتفسير ، والسنّة . . إنما يتجاوز إلى الأمور الحيويّة والحياة المعيشيّة . وإن كانت الآية هنا تخصص هذه المقاصد لأن الحديث في هذه الآية عن الأنبياء وما يوحى إليهم .
 كما أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلّمه كي يعلِّم الناس ، ويوضح لهم هذا الدين ويشرحه ، ليكونوا عارفين به عالمين ، ويستطيعوا تطبيقه :
(( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) ))(3) .
 والقرآن الكريم يحضُّ المسلمين أن يسألوا العارفين بالبواطن والظواهر كي يعملوا على هدى وبصيرة . من أمثلة ذلك : (( وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا . . ))(4) ، (( فَاسْئَلْ بِهِ
خَبِيرًا ))(5) .
 كما أنّ الإيمان يعتبر ناقصاً بل مفقوداً إذا احتكم المسلمون إلى غير كتاب الله ، وغير رسول الله ، ولا يكون إيماننا مقبولاً إلا إذا تبعنا هذا الرسول الكريم الذي يبعثه الله معلماً ومرشداً (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) ))(6) وكيف يكون الحرج وأنت تسلم أمرك إلى المختص النبيه ، صلةِ الوصل بيننا وبين صاحب التشريع جلَّ شأنه ؟!.
 وإذا سألنا أنفسنا : لماذا يحتكم الناس إلى ربّهم ؟ فالجواب بدهي معروف ، إنه العالم بكل شيء ، والقادر على كل شيء .
أ ـ (( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
ب ـ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
جـ ـ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ
د ـ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا
هـ ـ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
و ـ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) ))(7) .
 وقد نعى القرآن الكريم على المدَّعين الإسلام إحجامهم عن طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيغالهم في الابتعاد عن الاحتكام إليه ، فهذا ليس من شأن المسلم الصادق الإيمان ، بل هو من شأن أهل الأفئدة الضعيفة والقلوب المريضة . فكيف نبتعد عن النطاسيّ البارع ، وبيده الدواء الشافي ، والعلاج الناجع ؟!! .
 (( لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
 وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
 وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
 وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
 أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ
الظَّالِمُونَ (50)
 إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
 وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) ))(8) .
 ففي طاعة أهل الاختصاص وأولي الأمر ، والاحتكام إليهم ، والنزول على أحكامهم الصائبة ، وتسليم الأمور لهم فوز أيّما فوز ، وفلاح أيما فلاح .
 ومن الآيات الواضحة جداً في هذا الباب قوله تعالى :
 (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
 وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ . . . ))(9) .
 فالمسلم المؤمن يسمع الخبر فلا يعجبه ، لأنه مخالف للحقيقة ، مجاف لها ، هكذا يحسُّه بفطرته ، فيتحرّاه ، ويسأل عنه ، حتى يتبيّنه على حقيقته ، فلا يجوز اتخاذ القرار إلا بعد معرفة حيثيات الأمر ، وإلا ظـُلِم أقوام ، وأوذي آخرون ، وندم المسلم على عملٍ عمِله دون البحث عنه وتحريه ومعرفته المعرفة التامة .
 ومن الآيات الواضحة وضوحاً بيناً كذلك قوله تعالى : (( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
 وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
 وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) ))(10) .
 فالخبر يأتينا سواء كان مفرحاً أم محزناً ، مبشراً أم محذّراً فينشر خبره بين الناس انتشار النار في الهشيم ، ولا يصل إلى أهل العلم والدراية إلا متأخراً وقد لا يصل ، وكان أحرى بمن سمعه أول ما سمعه أن يحمله إليهم ليحللوه ، ويتأكدوا منه ، فإن كان إشاعة لبلبلة الصف طوَوْه ، ومنعوا وصوله إلى العامّة من سوئه وسمومه ، فضيعوا الفرصة على المغرضين ، المصطادين في الماء العكر ، وإن كان صحيحاً استعدوا له وحذّروا الناس منه .
 وكذلك يفعلون بالخبر الحسن .
 وإلا يفعل المسلمون ذلك ينزلقوا إلى المستنقع الآسن ، الذي أراده لهم أعداؤهم أن يقعوا فيه ، وأراده الشيطان لهم أن يسقطوا في أوساخه ، وتعلقَ بهم أوشابُه .
 لكنَّ رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ، وفضله عليهم نبههم إلى ضرورة إيصال الأمر إلى أهله ، فهم أولى به ، وأقدر على التعامل معه .
                 
(1) سورة الحجر ، الآية : 9 .
(2) سورة النحل ، الآية : 43 .
(3) سورة النحل ، الآية : 44 .
(4) سورة الزخرف ، الآية : 45 .
(5) سورة الفرقان ، الآية : 59 .
(6) سورة النساء ، الآية : 65 .
(7) سورة لقمان ، الآية : 34 .
(8) سورة النور ، الآيات : 46 ـ 52 .
(9) سورة الحجرات ، الآيتان : 6 ، 7 .
(10) سورة النساء ، الآية : 83 .

المراجع

alhiwar.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مصطلحات دينية