نأى الفصيلان الرئيسان في العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني بنفسيهما عن الأزمة السورية...رسمياً وظاهرياً على أقل تقدير...حركة فتح التي لا تحتفظ تاريخياً بعلاقات طيبة مع النظام في دمشق، آثرت الصمت والتزام جانب «عدم التدخل في الشؤون الداخلية»....وحركة حماس، التي باعدتها الإيديولوجيا عن دمشق، وقرّبتها «حسابات اللحظة السياسية» الممتدة من 1999-2011، آثرت «الانسحاب الهادئ عن الأرض ومن الأزمة السورية، تاركة «شعرة معاوية» وراءها، برغم «زلة اللسان» القاسية التي صدرت عن إسماعيل هنيّة ذات «لحظة منبرية» شديدة الحماسة، لم يكررها من ورائه أحد...لكن من دون شك، فإن المراقب السياسي الحصيف، يستطيع أن يجزم بأن الحركتين أحجمتا منذ البدء، عن تقديم دعم للنظام، ولم ترغبا في خذلان الشعب والمعارضة.

طبعاً، رأينا حالات «تفلت» لصالح النظام أو ضده، مع المعارضة أو ضدها، صدرت عن فصائل محسوبة على دمشق (إقرأ تابعة لها) وأخرى منتمية لـ»لمبادرة جنيف»...كلا الفريقين «الأقلويين» لا يعبران عن الاتجاه الرئيس في الحركة الوطنية الفلسطينية، التي وضعت مصلحة أزيد من نصف مليون لاجئ فلسطيني مقيم على الأرض السورية، فوق كل اعتبار، وقررت ألا تعيد انتاج تجربة «النكبة الثالثة» في الكويت، زمن الاجتياح العراقي، عشيته وغداته.

ما يثير الحيرة في المواقف الفلسطينية حيال الأزمة السورية، هو موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ما زالت تبحث عن الأعذار والمبررات التي تدفعها لاتخاذ مواقف داعمة للنظام السوري، ضمناً وصراحة...بصورة مباشرة أو غير مباشرة...ونخص الشعبية بهذا المقال تحديداً، لأنها برغم التراجعات في مكانتها ونفوذها، ما زالت تنظيماً وازناً في الساحة الفلسطينية، ثم أن منصفاً أو عاقلاً، لا يمكن له أن يتهمها بالتبعية لدمشق، برغم علاقاتها الممتدة مع النظام، منذ العام 1979 وحتى يومنا هذا.

الشعبية ما زالت تختصر المسألة السورية برمتها، كما لو كانت «حرباً على المقاومة والممانعة»، وهي حين تتحدث بخجل وتواضع عن «الحاجة للإصلاح في سوريا»، فإنما تفعل ذلك من ضمن سقوف أدنى حتى من تلك التي تعتمدها «قناة الدنيا» أو «الفضائية السورية» التي يخيل لمشاهديهما هذه الأيام، أنهما «تستعيران» أحياناً من قناة الجزيرة بعض مفرداتها وبرامجها (؟).

والحقيقة أن الجبهة الشعبية تكرر اليوم، خطأً وقعت به قبل نصف قرن تقريباً...عندما أُخِذَت بالشعار الناصري، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وقبلت حين كانت فرعاً للقوميين العرب، بإخضاع «أجندة» العمل الفلسطيني لـ»توقيتات» العمل القومي بقيادة جمال عبد الناصر...هُزم عبد الناصر في 67، وخسرت الأمة بأكملها «المعركة» مع المشروع الصهيوني الزاحف، وخسرت فوقها، مقومات حريتها وديمقراطتيها ونمائها، ودائماً بحجة المعركة والمجهود الحربي، وكانت خسارة الشعبية صافية، إذ انتزعت حركة فتح زمام المبادرة التاريخية آنذاك، وأطلقت رصاصتها الأولى، وتصدرت العمل الوطني الفلسطيني حتى يومنا الراهن، فيما «الرفاق» حائرون في تفكيك معادلة «فوق الصفر تحت التوريط».

اليوم، يكاد التاريخ يعيد نفسه، ولكن على صورة مأساة ومهزلة في نفس الوقت...عشرة آلاف قتيل وأضعافهم من الجرحى وأضعاف أضعافهم من المهجرين واللاجئين، وما زلنا نرفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الممانعة»...ما زلنا «فوق الصفر وتحت التوريط»...هذا موقف خاطئ سياسياً ومثلوم أخلاقياً وقيمياً.

لا يمكن لناشط أو ثوري أو مقاوم أو إصلاحي، أن يتحدث مطالباً بالإصلاح في بلده، فيما هو يصطف إلى جانب أعداء الإصلاح والحرية والتغيير في سوريا، ويستكثر على الشعب السوري حقه غير المنقوص في الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة....لا يمكن لمطالب بالحوار والمصالحة والتوافق في بلده، أن يجيز بالصمت، قتل المتظاهرين والمعارضين أو سجنهم ونفيهم...لا يمكن لكائن سوي، أياً كان، أن يقبل تدمير مدن وقرى وأحياء فوق رؤوس أصحابها....لا يمكن لقوى ديمقراطية أن تجيز «الاستخدام المفرط في دمويته للقوة» ضد الشعب والسكان والمتظاهرين، تحت أية حجة أو شعار، مهما بلغت درجة «قداسته»...بئس المقاومة والممانعة إن كان ثمنهما عشرة آلاف رأس سوري...بئست «المعركة» التي تستحيل حروباً دامية ضد الشعب، بكل فئاته ومقوماته.

نحن كما «الرفاق»، نرى ما يرون من تآمر المتآمرين على سوريا، ومن حقد الحاقدين على «محور» بعينه...نرى ونقرأ «تصفية حسابات» مع سوريا وعليها وفوقها...ولكن هذا ليس سوى جانب واحد من الصورة، بل الجانب الأقل أهمية منها...أما الجانب الذي لا يريد «الرفاق» رؤيته بحجمه، فهو الجانب المتعلق بالمواجهة المحتدمة بين شعب توّاق للحركة والكرامة والديمقراطية والتعددية (وأحسب أن كل رفيق يعرف ذلك تمام المعرفة) من جهة، ونظام عائلي وراثي من جهة ثانية...هذا نظام لا نرتضيه لأنفسنا...ولن نرتضيه للشعب السوري...هذه مصائر لا نرتضيها نحن وإياكم للشقيقة سوريا...نحن وإياكم، لم نبق وصفاً بذيئاً إلا وأطلقناه على كل من تسبب في الاقتتال الداخلي في غزة...لقد أقمنا وأقمتهم الدنيا ولم نقعدها من أجل مائة شهيد سقطوا في غزة زمن الاقتتال والتقاتل، وهذا ثمنٌ باهظٌ على أية حال...فكيف نصمت عن قتل أزيد من عشرة آلاف سوري ؟...سؤال برسم السياسة والتاريخ والمستقبل والضمير والعقل والإيديولوجيا، وكل ما يمكن أن يخطر ببالنا من مرجعيات.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور