حرب الأمعاء الخاوية التي يشنها ألوف الأسرى والسجناء، تعيد تذكيرنا بدرسين أساسيين من دروس حرب المائة عام بين الفلسطينيين والإسرائيليين...الأول، أن هذا الكيان الإحتلالي الإجلائي، الذي نشأ على العنصرية والاستعلاء و”شعب الله المختار”، وبنى إرثه كله، على الأساطير والمجازر الجماعية، لم يتخل عن عنصريته، حتى بعد أن تخلى المجتمع الدولي، عن وصف الصهيونية بالعنصرية والتمييز العنصري، وبتواطؤ فلسطيني وعربي مخجل.
أما الدرس الثاني، فيتجلى في قدرة هذا الشعب المناضل، على ابتداع مختلف أشكال النضال والكفاح لتحقيق أهدافه في الحرية والكرامة والاستقلال الوطني الناجز والعودة إلى الديار التي شُرّد منها بغير وجه حق...فها هم أسرى فلسطين وأسيراتها، سجناؤها وسجيناتها، يخضون حرب الأمعاء الخاوية، أسبوعاً وراء أسبوع، يرفضون أنصاف الحلول والمساومات “القذرة واللا إنسانية” التي يعرضها السجّانون عليهم، مسطرين واحدة من أروع ملاحم المجد والتضحية.
لقد فتح خضر عدنان بإضرابه التاريخي والقياسي (66 يوماً) ومن بعده هناء شلبي (43 يوماً) الطريق أمام آلاف الأسرى والسجناء، لتصعيد معركة الكرامة والحرية...وسطروا بصمودهم وإصرارهم الباسلين، دروساً ملهمة للحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها، خلف القضبان وخارجها، في السجن الصغير أم في السجن الكبير، والمؤكد أن نسائم الربيع العربي التي تورق وتزهر خلف قضبان السجون الاحتلالية، ستنتشر وتتمدد فوق الوطن الأسير والمحاصر، وفي دنيا المغتربات والشتات واللجوء.
لكن المؤسف حقاً، أن القيادة الفلسطينية بجناحيها، الوطني والإسلامي، لم ترتق في تفاعلها مع قضية الأسرى وكفاحهم الباسل، إلى المستوى المطلوب...لقد تابعت معركة الأمعاء الخاوية بأمعاء ممتلئة ومُتخمة على ما يبدو...ظلت على سباتها وقلة حيلتها حيال حالة الانقسام المخجلة، وتحديداً في هذا الظرف بالذات....وتأخرت في إدارة المعركة السياسية والدبلوماسية المصاحبة للإضراب الكبير، بل ونقلت انقساماتها وصراعاتها الصغيرة، إلى داخل السجون...هذا الوضع المؤسف، لا يجوز أن يستمر، أسرى فلسطين وأسيراتها، يستحقون ما هو أفضل من ذلك بكثير.
إن الإفراج عن المعتقلين الإداريين والمحكومين قديما وحديثا، كان على الدوام قضية رأي عام وطني فلسطيني بامتياز...لكنه لم يُترجم إلى أولوية قصوى على موائد التفاوض وفي الحراك السياسي والدبلوماسي وفي النضال الحقوقي والإعلامي الفلسطيني...وفي كثير من المحطات الفاصلة، أصبحت هذه القضية على “قداستها الوطنية”، موضوعاً للتجاذبات الداخلية والمزايدات والمناقصات، تثار حيناً في سياق المناكفة وتسجيل النقاط، وتختفي عن الأجندة اليومية، حين تفقد وظيفتها في تأليب الرأي العام على هذا الفريق من قبل ذاك.
لا يجوز أن يظل التعامل مع قضية الأسرى والمبعدين، على هذا النحو...لا يجوز أن نترك مصائر الآلاف من خيرة أبناء الشعب الفلسطيني عرضة لتقلب الأولويات والأجندات...ولا أن نرهن مصائرهم الشخصية والوطنية، بصفقات تبادل تنجز مرة واحدة كل عقد أو عقدين من الزمان...هذه ليست استراتيجية فعّالة للإفراج عنهم ولا حتى لتحسين شروط اعتقالهم...مطلوب توافق وطني على استراتيجية للتعامل مع هذا الملف، من ضمن توافق وطني أوسع وأشمل، يطاول مختلف عناوين المرحلة المقبلة، والخيارات البديلة المتاحة أمام الشعب الفلسطيني.
ينبغي أن ترتبط قضية الأسرى بالحراك الشعبي الفلسطيني الذي آن أوان إطلاقه وتفجيره، بدل استمرار الحديث الواهن عن “رفض الانتفاضة الثالثة” بل والتعهد بمنعها، وعلى الذين لا يريدون لهذا الشعب أن يلتحق بقطار الربيع العربي، أن يرشدونا إلى بدائلهم، إن كانت لديهم بدائل...هذا الفريق قابع بانتظار رد نتنياهو على “رسالته” متأملاً أن تتقدم الإدارة الأمريكية ببعض الأفكار التي تخرجه من ركود الانتظارية المقيتة والمدمرة...وذاك الفريق سعيد بالتهدئة التي تكاد تصبح استراتيجيته الوحيدة في المرحلة المقبلة...كلا الفريقين في حالة انتظار... لا نعرف ماذا ينتظرون ومتى سيأتيهم “جودو” ؟
...ومن يدفع أبهظ الأثمان لاستمرار هذا الانقسام وتفشي مظاهر “قلة الحيلة” و”انعدام الرؤية”، هم أبناء الحركة الوطنية الأسيرة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور
|