حركة (الاحتجاج/الثورة/الانتفاضة) في سوريا، تقف على مفترق طرق حاسم، والأرجح أن الطريق الذي ستسلكه في قادمات الأيام، سيقرر مستقبلها ومستقبل سوريا برُمتها...من جهة هناك ميل عنفي متصاعد، هذه المرة من المعارضة المسلحة التي تتكون أساساً من تيارات إخوانية وسلفية (جهادية) مدعومة من قطر والسعودية وليبيا (تمويلاً وتسليحاً)، وتحظى بتسهيلات لوجستية تركية وأمريكية (وغيرها) غير خافية على أحد، وبما يتناقض كليةً مع مهمة كوفي عنان التي لم تخف هذه الأطراف ضيقها بها، ورغبتها في اختزال آجالها والإعلان عن فشلها، حتى قبل أن يبدأ الرجل خطوته الأولى.
وهناك من جهة ثانية، الحراك الشعبي (الجماهيري/ السلمي) الذي أثبت قدرة فائقة على إسقاط محاولات النظام إخراجه من الشارع...هذه الوجهة، تدعمها تيارات المعارضة في الداخل “هيئة التنسيق” و”المنبر الديمقراطي” وغيرها من الشخصيات والمجاميع المعارضة..وهذه التيارات تلقى تأييداً من قبل قطاع من السوريين وبعض العواصم العربية والغربية (تعاطف وتفهم بالأحرى)...وهي وإن كانت صاحبة الصوت الأكثر انخفاضاً، إلا أنها تتوفر على الخطاب الأكثر عقلانية في معالجة الأزمة السورية وإدارة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية.
قد يسأل سائل: وماذا عن المجلس الوطني السوري؟...ماذا عن اللاعب الثالث كما وصفه الجنرال مود وبان كي مون، أي القاعدة بتفريخاتها ومسمياتها المختلفة؟ من حيث الشكل، يبدو المجلس الوطني إئتلافاً لقوى وشخصيات عديدة، أما من حيث المضمون فهو غطاء سياسي هش وغير كفؤ ومنقسم على نفسه، لجماعة الإخوان المسلمين السوريين، هكذا كان الحال من قبل، قبل الهيكلة المُتعذرة، وهكذا هو الحال الآن، والإنشقاقات المتكررة التي شهدها المجلس ويشهدها حالياً، تعود في واحدة من أسبابها (وليس جميعها) إلى الدور المهيمن للجماعة على عمل المجلس، وبالذات في حقلي الإغاثة والتسليح والتدريب، وبدعم قوي من تركيا وقطر.
أما “القاعدة”، فلم تعد “حالة الإنكار” التي تعيشها معارضة الخارج، تفلح في نفي دورها المتصاعد في الأزمة السورية...هناك قرار توجيه مركزي لدى القاعدة بالتركّز في سوريا (تصريحات الظواهري)، وهناك زحف لمقاتليها من العراق ولبنان صوب سوريا، باعتراف كبار المسؤولين الأمريكان والعراقيين وقسم كبير من اللبنانيين، وهناك حركة من شمال أفريقيا بهذا الإتجاه (باعتراف وزير الخارجية التونسي – حزب النهضة)، وهناك العمليات التي تحمل بصماتها وإعلاناتها المتكررة عن المسؤولية عن تفجيرات دمشق وحلب، ومرة أخرى باعتراف كبار جنرلات واشنطن ودوائر استخبارية عالمية عديدة.
نحن إذن، أمام مشهد يزداد تعقيداً يوماً إثر آخر، ويزداد تداخلاً على المستوى الإقليمي كذلك...وسوريا تتجه لإعادة انتاج سيناريوهات الحرب الأهلية العراقية الممتدة من 2005 - 2008 والتي تتوالى فصولها وتمتد ذيولها في بلاد ما بين النهرين بصورة أقل حدة حتى يومنا هذا.
على المستوى الإقليمي، لم يعد الحديث عن تداعيات الأزمة السورية على الجوار، أمراً افتراضياً خاضعا للتكهنات وتمارين بناء السيناريوهات...نحن الآن في خضم هذه التداعيات، وما حصل في العراق من تطورات سياسية وأمنية طوال الأشهر الخمس أو الست الفائتة، لا يمكن تفسيره بمعزل عن حسابات الأطراف المنخرطة في الصراع في سوريا وعليها...وأحداث طرابلس – الشمال وجوارها، باتت جزءاً لا يتجزأ من يوميات الأزمة السورية الدامية، و”الحبل على الجرار” كما يقال.
إن قُدّر لأنصار “الحسم الجهادي” أن يفرضوا “طريقهم الخاص” على سوريا، فمعنى ذلك، أن لا اصلاح ولا تغيير، بل الفوضى والخراب...معنى ذلك أن سوريا بمجملها ستتحول إلى “أنبار 2”...هل “تذكرون الأنبار 1” و”غزوة الفنادق” وعشرات المحاولات التي استهدفت الأردن في أمنه واستقرار انطلاقاً من هناك؟...معنى ذلك أن الأزمة السورية ستطول وتستطيل، فهذه الفوضى كفيلة بضرب هيبة النظام السوري و”قضّ مضاجعه”، لكننا لم نسمع عن نظام سقط بهذه الطريقة، من دون أن تكون هناك “قوة خارجية” كفيلة بتمهيد الأرض وتدمير بنى السلطة ومؤسسات الدولة، ومثل هذه القوة/القوى لم تظهر حتى الآن في سياق الأزمة السورية، لا بل يمكننا الجزم، أن تصاعد دور “القاعدة” و”شقيقاتها” سوف يزيد من تردد المترددين إقليمياً ودولياً.
مثل هذا السيناريو إن كانت له الغلبة، فمعنى ذلك، أن على الدولة والمجتمع في سوريا السلام...وسيتعين على سوريا، كما تعيّن على العراق من قبل، أن تقضي عشرات السنين في اعادة لملمة شتاتها، هذا إن أمكنها فعل ذلك...وسنكون بعد “إنجاز المهمة” أمام ظاهرة “العائدون من سوريا” تماماً مثلما كانت دولنا ومجتمعات في الثلاثين سنة الأخيرة بإزاء ظواهر “العائدون من أفغانستان” و”العائدون من الشيشان” و”العائدون من البوسنة” – بالمناسبة يبدو أنه لن تكون هناك ظاهرة “العائدون من فلسطين” - وستدفع المنطقة برمتها، ثمة ضيق الأفق والمنطق الثأثري وسياسة تصفية الحسابات في سوريا وعلى حسابها.
طريق الخلاص الوحيد المفتوح حتى الآن أمام سوريا والسوريين، وإن بصعوبة، هو طريق كوفي عنان ومبادرته ومراقبيه...ومن أجل هذا، فإن على قوى المعارضة الوطنية السورية أن تعمل ما بوسعها من أجل جمع صفوفها ولملمة شتاتها قبل فوات الأوان، لقطع الطريق على “اللاعب الثالث” من جهة، وتقليص الأثر التدميري لسياسات “تصفية الحسابات الإقليمية” في سوريا، وللدور التخريبي الذي تقوم به عواصم “الثورة المضادة” في العالم العربي من جهة ثانية...عليها أن تشرع في حوار وطني، بمن حضر، ومن دون أن تنتظر أكثر التيارات تشدداً وميلاً للعسكرة والتسلح و”التطيّف”...عليها أن تفعل البنود السياسية في مباردة كوفي عنان، والتي تبدأ بإجراءات بناء الثقة وتمر بالحوار ولا تنتهي بترتبيات مرحلة الإنتقال.
إن لم يكن تغيير النظام ممكناً بضربة واحدة، إن لم يكن قطع “الهاوية” ممكناً بقفزة واحدة...من الأفضل لسوريا ومستقبل وحدتها الترابية والسكانية والمجتمعية، من الأفضل لمشروع التغيير والإصلاح في سوريا، أن يتم ذلك على خطوات ومراحل، بدل المجازفة بإسقاط البلاد والعباد في قعر الهاوية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور