هذه الرواية التي كتبتها الأديبة الأردنية وعد الناصر تحكي قصة أسرة فلسطينية، هاجرت بعد نكبة فلسطين 1948م إلى ولاية «ميتشجن» بالولايات المتحدة، وهذه الأسرة المكونة من الأب والأم والابنة مريم التي كان ولاؤها كله لأمريكا: الأرض التي نشأت عليها، وتمتعت سعيدة بنعيمها وخيراتها وأضوائها، وتخرجت صيدلانية في إحدى جامعاتها.
ولكن مريم تفاجأ بأبيها يقرر ترك أمريكا مع أسرته إلى المخيم الفلسطيني الذي يعيش فيه جدها وجدتها، لقد خرج بأسرته مكرهًا بسبب إجراءات ومضايقات رهيبة وضعت حياتهم في خطر، وقادت إلى حصار ممتلكات الأب، ومصادرة أمواله؛ لأنه رفض أن يميت ضميره، ويتخلى عن قيمه وطهره ونقائه، ولم يعد له أمل في العودة، واسترداد أمواله، أو بعضها إلا في صديقه أحمد الزهراوي المقيم في أمريكا بعد أن تكفل بمتابعة القضية عن طريق أحد المحامين.
وعاشت «الصيدلانية» الشابة مريم في المخيم على أمل تلقي نبأ سار يحمل بشرى من أحمد الزهراوي بالعودة إلى أمريكا، واستئناف العيش في نعيمها، والحصول على درجة الدكتوراه من إحدى جامعاتها، أو على الأقل العيش في فرنسا «مدينة العلم والنور».
وكانت صدمة ممتدة، ومرارة عاتية حياة مريم في مخيم أكواخ الطين والزنكو والحارات الضيقة القذرة، وهي التي كانت تعيش في بلاد ناطحات السحاب، والعلم، والنظافة، والنعيم، والنظام، والحركة الدائبة، والتقدم المطرد.
وفي المخيم حاولت الفتاة أن تدفن هموم الصدمة في إدارة الصيدلية التي فتحتها، ولكنها ظلت مسكونة بالوهم الكبير، أو الأمل في العودة إلى أمريكا.
> > >
ولكنها بدأت - تدريجيًا - تتخفف من وطأة هذا الهاجس الخطير الذي أنشب أنيابه ومخالبه في عقلها ووجدانها، بعد أن اعتصرتها تجربة المعايشة الفعلية للواقع الجديد المر الذي يطبق على أبيها وأمها، ومن أمد بعيد على الجد والجدة، والأهل، والأطفال، والمواطنين الذين أرغموا على ترك وطنهم إلى المخيمات بقيام دولة العدوان «إسرائيل».
ومع مسيرة هذا التخفف أو الانسلاخ من هذا الهاجس بدأت «مشاعر الانتماء الوطني القومي» في النمو والتفتح، بعد أن رأت رأي العين من جرائم الصهاينة ما يقطع بوحشيتهم وخستهم: رأت مأساة «ياسر» الرسام الفنان، الذي وظف فنه في خدمة قضية فلسطين، فكان يرسم البيارات، وضحكات الأطفال، والقدس، والأرض، والبحر، ومعاناة اللاجئين (ص49).
وفي الليل اقتحم الصهاينة بيته المتواضع الذي يضم أمه المريضة المسكينة، وأخته الصغيرة، ونزعوه، وقيدوه، وأمامهما قطعوا شرايين يده اليمنى، فانفجرت يده بالدم، وفارقت أمه الحياة من هول ما رأت، وفقدت شقيقته النطق (ص50).
ولولا أن مريم أوقفت النزيف في صيدليتها لفقد الحياة، وقص على مريم كيف سقط أبوه قتيلاً برصاصة صهيوني، أما أخوه فقد هاجر إلى بلاد لا يعرفها، ولا يعرف أحد عنه شيئًا (ص66).
ورأت كيف حطم الأعداء أو عملاؤهم صيدليتها (ص78)، وكيف قتلوا أباها غيلة على قارعة الطريق، وزعموا أنه «حادث سيارة» غير مقصود.
ولم تنزل بها هذه النكبات إلا لأنها بدأت «تتحيز» لوطنها، وتنتصر له بنشاط عملي صادق رشيد، وذلك خطوة أولى لمعرفة الحقوق الضائعة، وبداية للعمل على استرداد الوطن السليب، فاختلطت بسكان المخيم «وأفهمتهم بعباراتها الهادئة البسيطة ما يجب أن يفعلوا: كل واحد ممن يعرف الكتابة أخذ ورقة خطت عليها بعض العبارات، كان عليهم أن يملئوها لتحكي اسم العائلة اللاجئة أو النازحة كاملاً غير منقوص، وما كان لها من ممتلكات في الأرض التي ارتحلت غربة وأسى، فركضوا متسابقين متنافسين لملء هذه الأوراق التي فهموا أنها خطيرة، وأنها تحفظ حقًا لهم في الأرض التي لم يعيشوا على تربها لحظة» (ص77).
كل هذه المعاناة هزت إيمانها بالأمل الذي كانت تعيشه، أمل العودة إلى أمريكا، بل بدأت تزيل حبها لأرض الناطحات والأضواء، فمن كلامها لياسر الفنان الفلسطيني «في ولاية متشجن التي كنت أعيش فيها لم أكن أبصر روح الله في شيء، كنا نعرف الرب في أمريكا وقت المناسبات، فأنا لم أعرف الصلاة أبدًا كقيمة عليا تشعرك بوجود الله، منذ وصلت إلى هنا كانت أول عبارة طرقت أذني تهليل جدتي الحميم الدافئ، كانت دائمًا تردد بعفوية صادقة فطرية: لا إله إلا الله، ومع أني لم أكن آبه بها، إلا أنها فرضت حضورًا قويًا بداخلي لا أستطيع أن أخفيه، لاسيما عندما كانت تتحدث بيقين غريب عن العودة والوطن والأقداس» (ص67).
وتذوب مريم في مجتمع المخيم، مجتمع الغربة والتضحية والمصداقية والمرارة والمعاناة، وينفتح قلبها للفتى الفنان ياسر الذي قطع اليهود شرايين يده اليمنى، أحبته - كما تقول - ... وطنًا لم تعهده من قبل... (ص74)، كانت ترى أنه قوي، قوي جدًا، وسر قوته استعلاؤه على كل الضعف المحدق به» (ص75).
ويسري في أعطافها وأعماقها الحب بمفهومه الجليل الكبير: الأطفال، الغرباء، العجزة، الأرض، الشجر، ويزداد تجذرًا بعد أن فقدت قدرتها على المشي، وأصبحت لا تنتقل إلا بكرسي ذي عجلتين، وتعيش شامخة كشجرة السنديان، تهتف دائمًا بلسان المقال ولسان الحال:
ارجم أعداءك بالنار
واهتف بالصوت الهدار
الثورة .. الثورة
> > >
وتعكس الرواية دعوة قوية لحب الوطن في كل الأحوال: في المنشط والمكره، في السراء والضراء، بل يجب أن يتعمقنا حبه بدرجة أشد وأقوى في المحن والنكبات، وهذا الحب لا قيمة له إذا كان مجرد شعور، وانفعال عاطفي مهما كان متوهجًا، بل يجب أن يتجسد في عمل دائب، وتضحيات لا تنقطع، وغرس الوعي وقيم الإخلاص والولاء والحب والإيثار والصبر والوفاء.
> > >
وقد رأينا - من عرضنا للرواية - أن مريم الفلسطينية - التي تخرجت «صيدلانية» في جامعة متشجن «بالولايات المتحدة - هي الشخصية الرئيسة في الرواية، وقد نجح الكاتب في «إنماء» هذه الشخصية، فقد تحولت من عاشقة لأمريكا، كافرة بحياتها الدون في المخيم، الباردة الجامدة، وبقدر ما طردت أمريكا من قلبها، إلى شخصية زاهدة في بهارج أمريكا وحضارتها، تفتح هذا القلب على مصراعيه لمجتمع الغرباء الفقراء الذين شردهم الصهاينة، وجعلوا منهم لاجئين، محرومين من الحد الأدنى للعيش الآدمي، وتغلبت على كل المحن التي أنزلها الأعداء بها، وبأسرتها، وبنزلاء المخيم، وعشقت المخيم وطنًا صغيرًا، ومنه تكون العودة المنشودة للوطن الأم: فلسطين السليبة.
وجاء نمو هذه الشخصية وتطورها طبعيًا، بلا افتعال، وظلت هذه الشخصية تمثل قطب الرحى في الرواية كلها، وجاء ارتباطها بالشخصيات الأخرى قويًا، لم يتنافر - في أية مرحلة من مراحل الرواية - مع أبعاد هذه الشخصيات.
كما أن أغلب الأحداث والوقائع والحوار والمشاعر جاء في المسيرة الروائية منبثقًا من هذه الشخصية التي كان لها حضورها الفعال في كل موقف وحدث.
ويُعد «ياسر» الرسام الفلسطيني - الذي رصد ريشته لرسم الوطن قدسًا وبيارات وأشجارًا، وبؤسًا ومعاناة - الشخصية المحورية الثانية، وإن لم يشغل من مساحة الرواية إلا نصفها الثاني، وهو أقرب إلى نموذج «الشخصية الجاهزة»، ولكنه كان عاملاً مهمًا في تطوير شخصية مريم.
> > >
وتعتبر الوقائع قليلة بالنظر إلى مساحة الرواية؛ لأنه غلب عليها التحليل النفسي، والحركة الوجدانية اعتمادًا على آليات متعددة، أهمها:
1 - الحوار الداخلي، والبوح الذاتي.
2 - اهتمام السرد بطرح الأعماق، ووصف المشاعر، والعلائق التي تربط الشخصيات بالموجودات الحسية.
3 - انتقاء الوقائع الأقدر من غيرها على الإيحاء، وإعطاء الملامح النفسية والعقلية، كواقعة حزّ يد «ياسر» لمنعه من التعبير بالرسم عن آلام الشعب وآماله.
4 - الاسترجاع Flash Back، والربط بين المعطى المسترجَع، والحاضر المعيش، والمستقبل المرجوّ المنشود.
> > >
الأداء التعبيري في الرواية كلها يتمتع بالشعرية والرفعة والجلال، يستوي في ذلك السرد والحوار، والتصوير يجنح نحو الرومانسية المحلقة في تتابعات جمالية آسرة، وللإبانة عن هذه السمة الأسلوبية نقدم السطور الآتية:
- «... أي هزيمة يا أبي تحني ظهرك الصلب الشديد؟! أجهشت بالبكاء، بدأت تهذي، تبًا لأولئك المنظرين، تبًا لكلماتهم التي كانت تسحرنا، وتأخذ بألبابنا.. لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم» (ص7).
- «..اقتربت «مريم» لأول مرة تجلس بجانب جدتها، كانت تسترق النظر إلى التجاعيد التي امتدت على رقعة وجهها العجوز، فكسته بعدًا يغرق في عالم غامض سحيق، أتراه الوطن؟! أتراها الغربة التي انكسرت على صخرتها العاتية مسارب الزمان الآمن المنساب في سرداب الحياة، أو آفاقها المتسعة..» (ص39).
- «... ياسر .. إن صمت الصغيرة المجدول بانشداده القديم للقدس لابد أن ينطق رفضًا، تمردًا، إرادة حرة بالله، بالحق، آن الأوان لريشتك يا سيدي أن ترسم دروب العودة لتضحك أمك الزاوية، ويعود الأب الصريع يزرع الحوش، وتزهر في كفه البيارات» (ص90).
ولكننا نسجل على الحوار المآخذ الآتية:
(1) كثرته، وهيمنته على سياق الرواية إلى حد الإغراق، حتى إنه كاد يخفي السرد في طياته، ويقرب بعض فصول الرواية من العمل المسرحي.
(2) وحدة المستوى الفني والفكري في الحوار، دون مراعاة الفروق بين الشخصيات في المستويات العقلية والثقافية والاجتماعية، فالقارئ يتلقى باقتناع كلمات «مريم» ذات الثقافة العالية في أسلوبها الشعري الرفيع العميق اتساقًا مع مستواها الفكري الناضج، ولكن لا يستطيع أن يقتنع بكثير من الحوار الذي جاء على لسان الجدة والأم، وهما من الشخصيات الأمية أو غير المثقفة مثل الكلمات التالية التي جاءت على لسان أم مريم موجهة الكلام لابنتها «الصيدلانية مريم»:
«أنت تحملين سكينًا تمررينه على أعناقنا جميعًا .. انظري حولك! انظري جيدًا .. الكل في استكانة وتضرع من أجلك، وأنت لا تأبهين، يا لنرجسيتك الغبية» (ص14).
ووحدة المستوى الحواري تحرم الحوار أداءً وظيفة من أهم وظائفه - إن لم تكن أهمها - وهي الاشتراك في رسم أبعاد الشخصية والأحداث.
(3) تطعيم الحوار ـ بلا داعية فنية أو فكرية ـ ببعض العبارات العامية، وقد بدت غريبة مجافية لأسلوب الرواية الرفيع الراقي، ومن هذه العبارات العامية:
- «.. والله يا ابني صدق اللي قال: اللي إيده في المي مش زي اللي إيده في النار..» (ص25).
- .. الله يلعنك يا غريب .. قعودلك في الدار ما فيه (ص41).
- ... من يوم النكسة ما شفنا لحظة حلوة!! (ص49).
- آه يا حج .. ما له المختار؟ احكي، وما تخوفني أكتر ... احكي يا حج... (ص88).
ولا يصدق هذا الحكم على ما جاء في الرواية من بعض الترانيم والأغنيات الشعبية مثل:
«وقفوني عالحدود
قال بدُون هَوِيتِي
قُلتُلَنْ والله ياخي
خبيتها ستي...» (ص69).
(4) الإيغال في الغموض أحيانًا. وقد يكون ذلك ناجمًا عن حرص الكاتبة على أمرين:
أ - طرح كثير من المعاني والمقولات الفلسفية والاجتماعية؛ مما يرهق الحبكة، ويضعف عنصر التشويق.
ب - شعرية الأسلوب بالإبعاد الخيالي، والتحليقات الرومانسية الشاردة.
وهذا الإيغال يترتب عليه تحقيق الانفصام بين المتلقي والمسيرة الروائية.
ومع ذلك نشهد للأداء التعبيري بالسمو والجلال والقدرة الإيحائية والشعرية الراقية.
* * *
وبعد هذه المسيرة النقدية مع رواية «مخيم يا وطن للأديبة الأردنية وعد الناصر، أشهد بأنها ضميمة طيبة جدًا لأدب النكبة الفلسطينية، وهي نكبة متجددة دائمًا أبدًا، وما علينا إلا النضال والمقاومة حتى يتحول الوطن من مخيمات دامية إلى عمائر شامخة تزهو بالنصر المؤزر المبين.
المراجع
رابطة أدباء الشام
التصانيف
أدب شعر كتاب