تكاثرت في الأيام الأخيرة الأخبار والتقارير التي تتحدث عن تشققات في جدار النظام السوري، طاول حلقات الحكم الداخلية...بعضها تحدث عن “تسميم” صهر الرئيس وأحد أركان النظام آصف شوكت...بعضها الثاني تحدث عن تمرد شقيق الرئيس وإصراره على المضي في مساره الأمني /العسكري بمعزل عن حسابات السياسة ومتطلبات الحراك الدبلوماسي...وبعضها الثالث، توقف أمام ما أسماه ظاهرة “إنفلات” المليشيات الموالية أو من يعرفون في سوريا بـ”الشبيحة” وقيامهم بمقارفة مجازر “من وراء ظهر النظام”.
لا تتحدث الأنباء والتقارير عن انشقاقات على “يسار” النظام إن جاز التعبير، سوى تلك الأخبار المتكررة عن انشقاق مجموعة جنود هنا وضابط متواضع هناك والتحاقهم بـ”الجيش السوري الحر”...جميع الإنشقاقات التي تشير إليها المصادر، تتحدث عن “تمرد التيارات الأكثر تشدداً وغلواً وإيغالاً في الدم السوري” على القيادة السياسية، وميلها لعدم الالتزام بالأوامر، وتذمرها مما تعتقد أنه “ضعف إرادة الحسم” لدى الرئيس السوري، وتفضيلها خيار المعركة الشاملة الناجزة مع المعارضين، مهما بلغت الكلفة والثمن.
في التفاصيل هناك من يميز بين الأسدين، الأب والابن، كيف تعامل الأسد / الأب مع أحداث حماة مطلع ثمانييات القرن الفائت وكيف يتعامل الأسد/الابن مع الأزمة السورية...هناك أصوات تزداد علواً تقول بإعادة إنتاج تجربة الأسد / الأب في الحسم السريع، معبرة عن القناعة بأن الأزمة ما كانت لتستغرق كل هذا الوقت، لو أن حافظ الأسد ما زال حياً، ولكان ملفها قد طويّ في الشهر الثالث أو الرابع على أبعد تقدير.
حتى أن هذه الأصوات لم تعد تبالي بـ”تقدير كلفة” الحسم السريع، طالما أن “الخلاص” سيكون بالضربة القاضية، غير الفنيّة، مرة واحدة وإلى الأبد (أو لثلاثين سنة أخرى قادمة)، ويبرر بعض هذه الأصوات مقاربته “الجنونية” هذه بالقول، أن ما دفعته سوريا بالمفرق على مدى 15 شهراً، كان يمكن أن تدفعه بالجملة، مرة واحدة وتستريح ؟
.
ماذا تعني مثل هذه الآراء التي نقرأها ونستجمعها مبثوثة في تقارير وتغطيات بعض الصحف والمراكز الدولية؟...إنها تعني أن أصحابها ما زالوا يعيشون “خارج التاريخ”، وأن نبأ انتهاء الحرب الباردة لم يبلغهم بعد، ولم يبلغهم أيضاً أن عالم اليوم غير عالم الثمانينات، وأن حافظ الأسد لو بقي حيّاً لما كان بمقدوره أن يفعل شيئاً مغايراً، ففي الأزمنة الراهنة لم يعد هناك شيء اسمه “سياسة داخلية” معزولة عن العالم من حولها، وأن مبدأ “السيادة الوطنية” قد أعيد تعريفه مراراً وتكراراً، وأن ما يجري من تباعد بين روسيا (وريثة الاتحاد السوفيتي السابق” والولايات المتحدة، ما زال حتى إشعار آخر، أبعد من أن يكون إعادة إنتاج للحرب الباردة.
تعني مثل هذه المواقف، أن الصراع بلغ مستوى من الاستقطاب الطائفي، حداً تسهل معه فكرة مقارفة المجازر بالجملة والمفرق، طالما أن الهدف هو البقاء في السلطة وحفظ أمن الطائفة ومصالحها وتفوقها “السيادي”...وأن هذه الحقوق والمصالح، سيجري الدفاع عنها ذاتياً، بقوة المليشيا والعناصر المنشقة، على ضفتي الانقسام الأهلي، مهما كلف الثمن، حتى وإن أفضى ذلك إلى تدمير الدولة أو التمرد عليها.
تعني مثل هذه “الخواطر السوداء” أن القوم على ضفتي الصراع، دخلوا في “لعبة الحياة والموت”، أو “اللعبة الصفرية”، فكل تقدم يحقق الآخر، هو خسارة صافية للفريق المقابل، والعكس بالعكس...لكأن حكماً بالإعدام على الحوار والوحدة الوطنية والعيش المشترك والسيادة الوطنية والدولة، قد صدر بصورة قطعية، وربما يكون حكماً كهذا هو القاسم المشترك الوحيد بين المتقاتلين في حرب سوريا الأهلية.
سياسياً، تعني هذه “الانشقاقات” و”التمردات” أن المراهنين على تغيير النظام من داخله، قد يفاجأون إن وقع أمر كهذا، ببدائل أكثر تشدداً من الأسد نفسه، بل وقد يترحمون على “أيام الأسد”...ما يعني أن شعار “إرحل” قد يأتي إن تجسّد، بنتائج مغايرة تماماً للمقصود به، وأن النموذج اليمني في حال إعادة إنتاجه سوريّاً، قد يقتلع الجزء الأكثر اعتدالاً من النظام، ويبقي أجزاءه الأكثر تطرفاً وتشدداً ودموية.
سياسياً أيضاً، تعني هذه المواقف، أن دورة التطرف والغلو التي أطلقها النظام وانتقلت بعد ذلك الشارع والمعارضة، تعود فترتد عليه الآن بأوخم العواقب والنتائج...فالخيار الأمني/العسكري لم يحم النظام ولن يحميه، بل يعرضه للتفيت والتآكل والتشقق، ومن داخله هذه المرة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور
|