قيل وكتب الكثير عن ظاهرة “الأسلمة” المتزايدة والمتسعة التي شهدتها المجتمعات العربية على امتداد العقود الثلاثة الفائتة...القليل فقط كتب عمّا يمكن تسميته بـ”أهودة” المجتمع الإسرائيلي إن جاز الاشتقاق، وفي ظني أنه غير جائز لغوياً، ونستخدمه هنا لغايات المقارنة والمقاربة...القوى الدينية تحتل مساحات متزايدة في الخريطة الاجتماعية والثقافية، واستتباعاً الخريطة السياسية للمجتمع الإسرائيلي...ومحاولاتها فرض تطبيق “الشريعة اليهودية” على النطاق العام، تتواصل بكثافة ودأب.
المدارس الدينية اليهودية تنتشر انتشار الهشيم، وتحظى بامتيازات يعرف “حاخامات” إسرائيل كيف يبتزون الدولة والمجتمع من أجل انتزاعها وتكريسها، ولقد شهدنا كيف تحوّل “قانون طال” المتعلق بخدمة “الحريديم” في الجيش، إلى قضية في قلب الجدل العام داخل الدولة العبرية، طوال سنوات عديدة.
أنظار المراقبين بعامة، انصرفت إلى ما يمكن أن يفعله الرئيس محمد مرسي بقطاع السياحة في مصر...قلة قليلة لفتت انتباههم، محاولات حاخامات إسرائيل “أهودة” قطاع السياحة الإسرائيلي...صحيفة “السفير” البيروتية نشرت تقريراً أمس عن هذا الموضوع، جاء فيه أن الحاخامية اليهودية، تسعى إلى إعادة تصنيف الفنادق في إسرائيل، ومنحها ما تشاء من “نجوم” وفقاً لمعايير أصولية يهودية خالصة...فالفندق الذي يُقَدّم اللحم “الكوشر” يحظى بميزة عن غيره من “الفنادق الليبرالية”، شريطة أن يلتزم بطرد كل “الأغيار” العاملين في مطابخه (الفلسطينيون منهم بخاصة)، وأن يستورد اللحم “الحلال” المدموغ بخاتم الحاخامية الكبرى، من دون بقية اللحوم المذبوحة بطرق شتى.
منع اللباس الفاضح في الفندق يمنح أصحابه ميزة على غيره، وإن بلغ “الالتزام الديني” به وبهم حد منع الاختلاط بين الرجال والنساء في المسابح، يكونون قد انتقلوا إلى مرتبة فوق “الخمسة نجوم”...تماماً مثلما تحاول بعض الحركات الإسلامية “الأصولية” أن تفعل في العديد من الدول والمجتمعات العربية.
عطلة السبت، باتت مقدسة، حتى المواصلات العامة تتوقف نهار السبت، والمناطق التي يمكن فيها استخدام “المواصلات الخاصة” أخذت مساحتها في التقلص والانكماش، ولم تعد مقتصرة فقط على أحياء “اليهود الأرثوذكس” في القدس وجوارها، بل أخذت تنتشر في طول البلاد وعرضها.
الحركات الدينية في إسرائيل، ليست رديفاً احتياطاً لليمين واليمين المتطرف (سياسياً) فحسب، بل أصبحت بما تحمله من أفكار وإيديولوجيات عنصرية، عامل تهديد للعرب والأقليات غير اليهودية، فضلاً عمّا تمثله من تحد في وجه “علمانيي” إسرائيل و”غربييها”.
واللافت للانتباه أن هؤلاء المتدينين يشكلون العمود الفقري للاستيطان الإيديولوجي في القدس والضفة، طبعاً هناك مستوطنون ليسو متدينين، من أنصار المدرستين “الجابوتنسكية” و”الكيبوتسية” يحتلون “التلال” الفلسطينية، ويزاحمون على كل “شبر” في القدس ومحيطها...قوة لوبي الاستيطان العددية في إسرائيل تلامس العشرة بالمائة، لكن قوتهم السياسية تفوق ذلك بكثير، وقد أصبحوا اليوم، مكوّناً رئيساً في حسابات السياسة الداخلية الإسرائيلية، وقرارهم يحظى بتأثير حاسم في رسم سياسات إسرائيل وتوجهاتها حيال الفلسطينيين بخاصة والعرب عموماً.
قلنا من قبل إن إسرائيل تتجه نحو التطرف، نحو اليمين واليمين المتطرف، وأن المساحة التي يحتلها اليسار واستتباعاً ما كان يعرف بـ”معسكر السلام” آخذة في التقلص والانكماش...مستخلصين من ذلك أن المشكلة ليست في حكومة نتنياهو- موفاز- باراك-ليبرمان، بل في المجتمع الذي أنجبها، والذي يبدو مرشحاً لإنجاب ما هو أكثر تشدداً وتطرفاً و”أصولية” من الحكومة والكنيست الحاليين.
اليوم نقول، إن إسرائيل تتجه أيضاً، وعلى خط موازٍ ومتسارع، نحو “الأهودة”...فظاهرة انتشار الحركات والمدارس والأحزاب الدينية في تصاعد هناك، وهذا ما حدا ببعض المفكرين والمحللين إلى التحذير من “حرب أصوليات” قادمة على المنطقة.
الغرب المتواطئ تلقائياً مع إسرائيل، لا يولي ظواهر التطرف و”الأهودة” التي تشهدها “واحدة الديمقراطية” في صحراء الشرق الأوسط القاحلة، أي اهتمام...كل تركيزه منصب على ظواهر “الأسلمة” و”التطرف” في المجتمعات العربية...ولو أن نصف ما صدر عن الحاخامية الكبرى في إسرائيل بخصوص “الأهودة” صدر عن الرئيس المصري المنتخب أو جماعة الإخوان المسلمين، لقامت الدنيا ولم تقعد، لكنها “المعايير المزدوجة” وقد بلغت حد النفاق المفضوح.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور