الموفد العربي/الدولي لسوريا كوفي عنان، لم يخف رغبته في مغادرة المسرح السياسي وترك الأزمة السورية الشائكة إلى مآلاتها الأكثر صعوبة...لقد قال ذلك تلميحاً وتصريحاً، وتناقلت وسائل الإعلام عنه وعن مساعديه، أجواء الإحباط التي يعيشها الرجل بسبب فشله في الوصول إلى النتائج المرجوّة بدءا بوقف النار العنف والقتل.

من حيث الشكل، يبدو العالم مُجمعاً على خطة عنان وحولها...لكن من حيث المضمون، فثمة أطراف غربية وعربية وإقليمية، تحفر عميقاً لدفن هذه المبادرة مرة واحدة وإلى الأبد...هذا ما استشعره الرجل منذ البدء، وهذا ما عبر عنه في أحاديثه وتقاريره العلنية والمنشورة مؤخراً.

عنان ينظر إلى روسيا كجزء من الحل...المحور العربي / الإقليمي / الدولي، الذي يتكون أساساً من الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر، يرى – بتفاوت – خلاف ذلك...هم يرون أن روسيا جزء من المشكلة لا وسيلة مساعدة على الحل...وتزداد الفجوة اتساعاً عند الحديث عن الدور الإيراني في الأزمة، عنان يرى ضرورة إشراك إيران، ذات الحضور والنفوذ غير الخافيين على أحد، في سوريا والمنطقة، فيما المعسكر المذكور يضع “فيتو” عريضا ضد مشاركة إيران، بل ويعتبر التفكير في أمر كهذا نوعاً من “السخرية السوداء”.

عنان يتحدث عن النظام السوري بوصفه جزءا من المشكلة والحل على حد سواء، فيما المعسكر الآخر، لا يرى في النظام سوى “جانب المشكلة” أما الحل فبإسقاطه بدءا من رمزه الأول: بشار الأسد...عنان لا يُخلي ساحة المعارضة وداعميها من “قسطٍ” من المسؤولية عن أحداث العنف والقتل، فيما يرفض المعسكر الآخر وضع الفريقين المحتربين في سلة واحدة، ويؤثر التركيز على “جرائم النظام ضد الإنسانية” متغافلاً عمّا تفعله بعض قوى المعارضة المسلحة من اعتداءات وتجاوزات تشارف ضفاف “الجرائم ضد الإنسانية وفقاً لبعض التقارير الدولية.

عنان لم يحضر مؤتمر باريس لأصدقاء سوريا، في دلالة على عمق الخلاف مع هذا المعسكر الذي يقود حلفاً دولياً مناهضاً للنظام...فكانت للمؤتمرين فرصة تفسير نتائج اجتماعات “جنيف” بما يروق لهم ويغضب عنان وروسيا، بالذات حين اتصل الأمر بتنحي الأسد كشرط مسبق للانتقال السياسي للديمقراطية.

بدل الشروع في تقديم استقالته، فاجأ السيد عنان المراقبين والمتتبعين بجولته الحالية في المنطقة والتي ستشمل عدداً من الدول المؤثرة في الأزمة، بدءا بسوريا والرئيس الأسد...ليواصلها في طهران التي استبعدت عن لقاء “جنيف” واستبعدت معها المملكة العربية السعودية، موحياً بوجود أفكار جديدة لوقف العنف، سيعرضها على المعارضة في أول لقاء له مع قادتها وأركانها الكثر والمتنافسين.

مثل هذا التبدل المفاجئ، أثار تساؤلات واسعة حول الأسباب التي حدت بالرجل إلى استئناف جهوده وبث بعض جرعات التفاؤل، وهو الذي كان منتظراً منه أن يلقي خطبة (تقرير) الوداع ويمضي إلى منزله ويوميات تقاعده المريح...هنا تقول بعض المصادر أن الذين عرقلوا خطة عنان على ضفتي الصراع الدائر في سوريا وحولها، لا يريدون للرجل أن يترك مهمته...لأن الفراغ وحده، أو الفراغ القاتل هو ما سيخيم على الأزمة، في وقت لا يبدو فيه الأفق مُحمّلاً بأية مبادرات سياسية أو عسكرية بديلة.

معظم، إن لم نقل جميع الأطراف المتورطة في الأزمة السورية، لا تريد أن تصل إلى هذه النتيجة...هي تريد مهمة عنان ولا تريدها...تريدها لتقطيع الوقت وتوفير فرص الحشد والتدريب والتسليح و”الحسم”...تريدها لغايات أخرى عديدة ومتناقضة، ليس من بينها هدف الوصول إلى حل سياسي للأزمة.

الولايات المتحدة و “بعض” أوروبا والأطلسي ليسوا جاهزين للتدخل العسكري الآن، أقله هذا العام...وهم غارقين في أولويات أخرى من بينها الانتخابات والأزمات وتجربة الفشل في أفغانستان والعراق...لذلك هم يريدون استمرار عنان في مهمته وإن إلى حين، حيث تجري تحت غبار تحركات الموفد الدولي، أوسع عملية تسليح وتدريب وتمويل وتهريب للمال والرجال إلى سوريا تقودها قطر والسعودية وبمساعدة نشطة من تركيا، وحيث تنعقد الرهانات والآمال على انهيار النظام تحت وقع أزمته المالية والاقتصادية واشتداد عود المسلحين والجيش الحر والعزلة الدولية المتفاقمة التي تحيط به وتمسك به من عنقه.

في المقابل، لا تبدو روسيا والصين وإيران، في وضع يمكّنها أن تقدم للنظام في دمشق أكثر مما قدمت له حتى الآن...هؤلاء يراهنون على صمود النظام وتماسكه وقدرته على “حسم معركة الأرض” مع خصومه ومعارضيه...كوفي عنان بالنسبة لهم، وكما يقرأون مهمته، ربما يكون خط الدفاع الأول عن النظام وعن مصالحهم المتشعبة في سوريا والمنطقة.

بين هذين “الهامشين: غياب البدائل السياسية والعسكرية لدى الأطراف المحتربة في سوريا وعليها، وحاجتها لتفادي “الفراغ”، يقرر عنان التمديد لنفسه ومهمته، يرجئ الاستقالة التي لوّح بها، ويتحرك يائساً ٌلإنقاذ ما تبقى من خطته، ليظل السؤال الذي يطارده: هل ستنجح هذه المرة حيث أخفقت محاولاتك السابقة؟

عنان يدرك صعوبة المهمة المولج بها، ويدرك أنه في غياب التوافق الدولي الصريح والواضح على أسس الحل وآلياته التنفيذية، في غياب الإرادة الدولية لإنفاذ خطته كما هي ومن دون “إضافات خبيئة وخبيثة”، لن يُكتب للأزمة السورية أن ترى الحل بوسائل سلمية، وستنزلق سوريا إلى أكثر سيناريوهاتها “كابوسيةً”...وهذا ما قاله عنان بصورة شبه حرفية على أية حال، معلناً بكل جرأة ووضوح أن بعض الدول، (ذكر تركيا وقطر والكويت والولايات المتحدة وفرنسا بالإسم) تمارس على الأرض غير ما تقوله في العلن، وتبطن في اللقاءات المغلقة غير ما تظهر للمعارضة من مواقف وسياسات...مشدداً على مسؤولية الجميع في تحمّل أوزار الأزمة وتبعات سفك الدماء الذي لم يتوقف.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور