سجّلت الأيام القليلة الفائتة تطوراً لافتاً في حركة الانشقاق عن النظام السوري...ضباط رفيعو المستوى ومعهم عشرات المنتسبين من رتبت عسكرية أقل، عبروا الحدود إلى تركيا...العميد مناف طلاس، بما يمثل ومن يمثل، تخلى عن موقعه على رأس الفرقة 105 من الحرس الجمهوري ليلتحق بصفوف المنشقين...سفير دمشق في بغداد، يدشن – ربما – لبداية تفكك السلك الدبلوماسي السوري المعتمد في الخارج، فهو أول دبلوماسي على هذا المستوى يخرج على النظام بعد ستة عشر شهراً من الاحتجاجات الشعبية والمواجهة الدامية، وقبله كان طيارٌ في سلاح الجوي السوري، يحط بطائرته الميغ 23 في مطار المفرق، كأول طيار وأول طائرة يغردان خارج سرب النظام.
من السابق لأوانه الحديث عن تفكك النظام وانهياره من الداخل...لكن هذه المؤشرات رفعت منسوب التوقعات لدى كثيرٍ المراقبين للشأن السوري، حيث بدأ هؤلاء حديثاً عن “مفاجآت” محتملة، قد تشمل قطعات عسكرية كاملة (لواء فما فوق) أو ربما انشقاق شخصيات من الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس، ولقد كشف خبر انشقاق فاروق الشرع الذي انتشر قبل أيام، انتشار النار في الهشيم عن “المزاج” الذي يعيشه المراقبون، برغم كونه مجرد شائعة لم تؤكدها أية مصادر موثوقة.
ثمة حدود، تطول أو تقصر، لقدرة أي نظام سياسي على حفظ وحدته وتماسكه في لحظات عصيبة كتلك التي يمر بها النظام السوري، ولقد أظهر النظام السوري تماسكاً استثنائياً حتى الآن، كان سبباً في بقائه طوال هذه المدة (هناك أسباب أخرى بالطبع)، وكان الاعتقاد السائد في أوساط شرائح عديدة من النظام، بأن “الخيار الأمني/العسكري” سيعطي أكله، وأن السوريين سيطوون أزمتهم الحالية كما طووا بالأمس، أزمات عديدة لم تكن أقل تفاقماً.
لكن دوائر النظام وأوساطه الداخلية، بدأت تدرك (متأخرة كعادتها) أن الخيار العسكري/الأمني، الذي جُرّب بقسوة طوال عام ونصف العام، لم يفض إلى إسكات صوت المعارضة، السلمية والمسلحة، ولم يحل دون انتشارها إلى مختلف المناطق السورية، بل جرف إلى أتون المواجهة بأشكالها المختلف، شرائح جديدة من المواطنين والمناطق، وبصورة لم يعد معها أحدٌ قادرٌ على التنبؤ بما ستأتي به الأيام القادمة من تطورات.
في مثل هذه المناخات والآفاق المسدودة، ومع تنامي ضغوط الداخل على أركان النظام للانشقاق عنه، وتزايد إغراءات الخارج لهم للقفز من على سطح السفينة الآخذة بالغرق، فإن من المتوقع أن تتسع ظاهرة التمرد والانشقاق كبقعة الزيت فوق رداء أبيض...يساعد على ذلك أن النظام نفسه، لم يعد قادراً على أن يعد بأي شيء، سوى القتال حتى آخر سوري لمواجهة ما يسميه “العدوان الكوني” على سوريا.
نحن نعرف أن اتصالات مباشرة وغير مباشرة، تُجريها أطراف عربية وإقليمية ودولية مع مسؤولين وضباط كبار وسفراء لحثهم على الإنشقاق، وأن ثمة موازنات كبرى قد رصدت لهذه الغاية، وأن قرارات منح اللجوء السياسي قد اتخذت بانتظار تعبئة النماذج الخاصة بها...لكن هذا وحده لن يكون كافياً لتفسير الظاهرة حين انتشارها واتساع نطاقها، وهو أمر بات محتملاً أكثر من أي وقت مضى...التزايد الواضح في أعداد ومستويات المنشقين، لا يُفَسّر إلا بفشل الخيار الأمني وارتفاع كلفته وانسداد آفاقه.
ستتحدث الدعاية الحكومية السورية عن حفنة من “الخونة” و”العملاء” الذين باعوا ضمائرهم “من أجل حفنة من الدولارات”...وسيجري تسفيه دورهم ومكانتهم في مؤسساتهم، تماماً مثل فعل طلاس الأب (طائعاً أو مكرهاً) في وصف نجله طلاس الابن، لكن ذلك كله لن يقلل من أثر الظاهرة، ولا يحد من تداعيات على تماسك المؤسسة ووحدة النظام...يبدو أن طاقة النظام على الوحدة والتماسك، قد بلغت ذروتها...يبدو أن قبضته المتراخية على أجزاء واسعة من سوريا، الأرض والشعب” قد بدأت تتراخى أيضاً في حفظ وحدة مؤسساته الأمنية والعسكرية والدبلوماسية.
وستُشجع ظواهر من هذا النوع، المعارضة على المضي في مطالبها الرافضة لأي حوار مع النظام والداعية لإسقاطه أن تنحيه كشرط مسبق للحوار والانتقال...وستُضعف فرص الوصول إلى مخارج سياسية تحت مظلة عنان أو غيره...كما ستُشجع ظواهر من هذا النوع، داعمي المعارضة، خصوصاً الأكثر حماساً للعسكرة و”الحسم” على رفع وتيرة التسليح والتهريب والتمويل والتدريب، وسيكون ذلك كله، بمثابة إيذان باتساع رقعة المواجهات الدامية وإطالة أمد الحرب الدائرة في سوريا، وربما تكون “نذيراً” بانهيار الدولة وتفكك مؤسساتها.
والخلاصة المفجعة، أن كل يوم يمضي على الأزمة السورية المتفجرة، ومع كل موجة تسقط من الضحايا الأبرياء وغير الأبرياء، نكتشف أن هذه الأزمة ما زالت في بدايتها، وأن الأسوأ ما زال أمامنا وبانتظارنا، ولم يعد وراءنا كما كنّا نأمل ويأمل السوريون.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور