تحوّل مخيم اليرموك، إحدى ضواحي دمشق، إلى ساحة لمواجهات بدأت سلمية وانتهت دامية، بين متظاهرين فلسطينيين سلميين وأجهزة أمن سورية، سقط بنتيجتها تسعة قتلى وعشرات الجرحى، ساهمت دماؤهم المُراقة، في رفع منسوب الغضب والاحتقان في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، ضد النظام وبعض حلفائه من الفصائل الفلسطينية....ومع سقوط هذه الكوكبة من الضحايا، وقبلها مصرع 17 جندياً في جيش التحرير على أيدي مسلحين من الجيش السوري الحر، يكون عدد الفلسطينيين الذين فقدوا أرواحهم منذ اندلاع الأزمة السورية قد ناهز المئة والخمسين ضحية، فضلا عن مئات الجرحى وأعداد غير معروفة من المعتقلين.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتحوّل فيها المخيمات إلى خطوط تماس بين الفلسطينيين وأجهزة النظام السوري، في بداية الأحداث كان مخيم درعا ساحة أخرى متفجرة للصراع المحتدم، وقبلها كان مخيم اللاذقية “الرمل الفلسطيني” كما يُعرف هناك، قد شهد مواجهات عنيفة...لكن ما حصل قبل أيام، كان الأعنف والأقوى والأوسع نطاقاً من حيث حجم المشاركة الشعبية في التظاهرات الليلية والنهارية الغاضبة.
منذ بدء الأزمة السورية، تبنت الفصائل الفلسطينية الرئيسة (فتح، حماس، الجهاد والجبهتان الشعبية والديمقراطية) سياسة “النأي بالمخيم” عن الأحداث، وصدرت مواقف على أرفع المستويات تدعو “الإخوة في سوريا”، سلطة ومعارضة، إلى تقدير رغبة الفلسطينيين بعدم الانزلاق في أتون الصراع الداخلي المحتدم...ونجح هذا الموقف “العاقل” في تجنيب المخيمات ويلات حرب أهلية باتت معلنة رسمياً بعد بيان الصليب الأحمر الدولي، لكن الحال لم يستمر على هذا المنوال، فلماذا، وما الذي تغير؟
لا شك في أن ارتفاع وتائر القتل والقتل المضاد، وانتقال المعارك إلى قلب دمشق وأطرافها وضواحيها اللصيقة بالمخيم، كان يجعل مهمة “النأي بالمخيم” تزداد صعوبة يوماً بعد آخر...فالمخيم مشتبك سكانياً وجغرافياً مع مناطق تشهد عنفاً ومواجهة دامية مثل أحياء الميدان والحجر الأسود والتضامن، وهو قريب من البساتين التي كانت مسرحاً لمطاردات بين الجيش النظامي والمسلحين، وسكانه لم يعودوا من اللاجئين فقط، بعد أن استقرت به مئات العائلات الفقيرة من سورية وعراقية وغيرها، وثمة معلومات تؤكد هروب مقاتلين سوريين إلى المخيم للاحتماء به، وأخرى تؤكد هروب لاجئين مدنيين إلى المخيم بحثاً عن مأوى آمن في بيوت الفلسطينيين ومدارس الأونروا...لقد اختلطت خطوط التماس، وأسقطت معها الخطوط الحمراء الافتراضية التي كانت تحيط بالمخيم وتعطيه هوية فلسطينية خارجية، أي بمعنى محايدة.
النظام الذي يعيش حالة نزق وإعياء، ما عاد يعرف كيف يتصرف، خصوصاً وحداته الأمنية والعسكرية المقاتلة، لقد بات يستسهل إطلاق النار وفتح المدافع ونيران الدبابات ضد كل ما يعتقده هدفاً أو “عدواً محتملا” دونما حساب جدي للكلفة البشرية والإنسانية، والمخيم في نهاية المطاف، ليس أهم من دوما أو حرستا أو كفر سوسة...في المقابل، يحتفظ النظام في داخل المخيم بـ”شبيحته” من الفلسطينيين، المنتمين لفصائل موالية لدمشق وتأتمر بأوامرها، فضلاً عن “رهط” من المخبرين والمتعاملين مع الأجهزة الأمنية....هؤلاء كانوا على الدوام، “رهن الإشارة” وبانتظار التعليمات، ويبدو أنها صدرت أخيراً.
لقد بذلت فصائل منظمة التحرير ومعها حماس والجهاد، جهوداً مضنية من أجل تدارك ما يمكن إدراكه، وإشاعة ضبط النفس وعدم الانجرار إلى ميادين المواجهة...مستلهمة “الدرس المأساوي” لفلسطينيي الكويت زمن الغزو العراقي للكويت والمآلات التي انتهوا إليها، وهي ما زالت تواصل هذه المساعي، وتنجح غالباً في تحقيق مراميها، لكن حجم الاحتقان ومستوى الغضب، يخرج أحياناً كثيرة عن حدود السيطرة والتحكم.
لا نريد للفلسطينيين أن يُهجّروا مرة ثانية وثالثة إلى منفى رابع وخامس...يكفيهم أزيد من ستة عقوم من الشتات والمنافي...لذا يتعين على عقلائهم وفاعليهم الإسراع في العودة إلى سياسة “النأي بالمخيم” عن طرفي الصراع والأزمة...الفلسطينيون، بخلاف السوريين، إن هُجّروا من مخيماتهم، فلن يعودا إليها ثانية...وجهتهم الجديدة لن تختلف عن وجهة إخوانهم من “لاجئي العراق” الذي استقر بعضهم على حواف الطرف الثاني من الكرة الأرضية...والأرجح أن هؤلاء لن يكون مرحباً بهم في أي بلد عربي قريب أو بعيد، بدليل تقارير المنظمات الدولية في هذا الشأن، والحكمة تقتضي تبريد الرؤوس الحامية في أوساطهم.
ثمة من يريد جر الفلسطينيين إلى خندقه وضد خصومه في الخندق الآخر...النظام يلعب على هذه الورقة والمعارضة تلعب عليها أيضاً، وفي الحالتين، من منطلق الافتراض بأن الجريمة حين تُقترف في قرية سورية، تظل جريمة، ولكنها تصبح جريمة مركبة، وذات أبعاد “كونية” تتصل بالصراع العربي الإسرائيلي بكل طبقاته وأبعاده وإمتداداته، حين تقع في مخيم فلسطيني، ليس لأن الدم الفلسطيني أغلى من الدم السوري، بل لأن إراقة الدم الفلسطيني يحمل في طياته بعض المعاني والمؤشرات المفتوحة على “نظرية المؤامرة”.
بعض الفصائل والشخصيات الفلسطينية في دمشق ورام الله وغزة، التي لا تتمتع عادة بصدقية عالية أو بنفوذ في أوساط شعبها أو فصائلها، ذهبت بعيداً في الانحياز لهذا الفرض ضد ذاك، أو العكس...هذه أطراف ثانوية لا تعبر عن التيار الرئيس في صفوف الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية والإسلامية، ولا يجوز بحال أن يؤخذ الشعب الفلسطيني بمجمله، بجريرة هذه الأطراف الهامشية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور