تتبارى أوساط قومية ويسارية فضلا عن كثيرٍ من مدارس الإسلامي السياسي الشيعي عموماً، في هجاء “الربيع العربي”، وتنعته بكل ما لم تجرؤ حتى نظم الفساد والاستبداد على نعته به من صفات “التصحر” و”التأمرك” و”التأسرل”...أما “نظرية المؤامرة” فلم تنتعش يوماً في فضاء هذه المنطقة، كما انتعشت خلال الأشهر العشرين الفائتة..والمؤسف أن سياسيين وكتابا ومعلقين وثوريين شرفاء ووطنيين غيورين قد انزلقوا في مهاوي التنديد والإدانة لهذه الموجة الثورية العارمة، بالاستناد إلى ما علق بها وصاحبها من ظواهر مؤلمة ومؤرقة.

الأمر بدأ بليبيا...ليبيا التي نظر إليها بعض هؤلاء على أنها جزء من “معسكر المقاومة والممانعة”، وإن لم يكن جزءاً أصيلاً وفاعلاً وطليعياً...وزاد الطين بِلّةً دخول الأطلسي على خط الثورة والتغيير في “الجماهيرية العظمى”...ومع الاحترام والتقدير والإقرار بصوابية، كل المخاوف التي رافقت وأعقبت التدخل الأطلسي، وكنّا قد تطرقنا لها مبكراً، إلا أن أياً من المشككين والمتشكيين بالربيع العربي، لن يكون بمقدوره إقناعنا بعد كل الذي عرفناه عن “العقيد” وشهدناه من ممارسات قطانه السائبة في أشهر الثورة الأولى، بأن بنغازي كانت ستنجو من “طامة كبرى” لو دخلتها عصابات القذافي وميليشياته، وأن التغيير في ليبيا كان ممكنا من دون تدخل خارجي.

لكن هذه النظرة الريبية للربيع العربي لم تتفاقم إلا بعد هبوب رياح التغيير على سوريا...هنا حدث الانقلاب الشامل، وهنا أعيدت قراءة “الثورات العربية” من منظور جديد، وبعيون جديدة...صارت الثورة مؤامرة، والديمقراطية حصان طروادة والإطاحة بالأنظمة وصفة جاهزة لتقسيم المقسم والتوطئة لسايكس بيكو جديد... وصار الإسلام السياسي متأمركاً وتركية عثمانية جديدة، وانقلبت كل النظريات والتقييمات والموازين، رأساً على عقب.

لقد ارتضى بعض هؤلاء أن يجعلوا من أنفسهم بيادق في أيدي النظام السوري، وبلغ دفاعهم المستميت عن النظام، حد إضفاء صفة العمالة على كل من يعارضه، وسحب صفة الأهلية عن أي بديل للنظام، قائم أو محتمل، وتطور الموقف حد هجاء أكثر من نصف الشعب المنتفض والمعارض والمشرد واللاجئ، ووضعهم جميعاً في دائرة العمالة والارتزاق، عن وعي أو بدونه...لم تعد مفردات “الشعب” و”الأغلبية” تعني شيئاً عند هؤلاء، فحتى إن انعقدت غالبية شعبية وازنة ضد الأسد، فهم على خطأ، وعليهم هم أن يرحلوا ليظل الرئيس المقاوم لإسرائيل وسايكس بيكو و”الأسرلة” و”الأمركة” و”العثمنة”.

هجومهم على مرسي مصر وإخوانها، بات ينطوي على حنين لمبارك ورثاء لعمر سليمان وتضامناً مع المشير طنطاوي...لقد بلغ استياءهم من نهضة تونس، حد إغماض الأعين عن السيرة غير العطرة لبن علي وأقربائه وأنسبائه، وكل المنظومة البوليسية التي أنشأها على صدور التونسيين وضمائرهم...لقد افتقدوا القذافي بهذياناته كما لو كان الزعيم المنتظر والقائد المخلّص.

يأخذون على التيار الإسلامي جنوحه للتهدئة وتفاديه الاشتباك مع كامب ديفيد، وهذا أمرٌ يثير قلقنا أيضاً، ولقد تناولناه في غير مناسبة...لكنهم يذهبون بعيداً في إسقاطاتهم وتهويماتهم، إلى الحد الذي يكاد ينسيك بأن نظام مبارك، حليف إسرائيل وشريكها في الحرب على غزة، حليف واشنطن وأداتها في كل حروبها ومعاركها في المنطقة، ما زال قائماً، وأن مرسي ليس سوى مبارك ملتحياً.

النظام السوري وأصدقاؤه وحلفاؤه وأعوانه وعملاؤه، هم أول من احتفى واحتفل بسقوط مبارك وبن علي، الأسد شخصياً كان منتشياً بثورتي تونس ومصر، وبالأخص الأخيرة، كما يروي عنه خالد مشعل...لكن ما أن بدأت رياح التغيير تزأر في شوارع حمص ودمشق ودرعا، حتى انتقل هؤلاء إلى رصد وتصيّد أية هفوة أو أزمة تحدث هنا أو هناك، لإطلاق إمارات الندم، مباشرة أو ضمناً، على رحيل أو ترحيل الأنظمة البائدة.

حزب الله الذي أقام مهرجاناً حاشداً للترحيب بربيع العرب وإعلان التضامن مع قواه وأنظمته، هو نفسه الذي يروّج عبر منابره وإعلامه، لنظرية “ربيع المؤامرة”...ومن يتابع الإعلام الصديق لحزب الله، من حيث برامجه وضيوفه وسياساته التحريرية، لن يصعب عليه قراءة المآلات التي انتهى إليها هذا الخطاب، مع أن الحزب يُخرج “ربيع البحرين والمنطقة الشرقية” من حسابات الربيع العربي.

يساريون وقوميون ممن لا يتوانون عن طرح شعارات الإصلاح والتغيير في دولهم ومجتمعاتهم، تحوّلوا إلى خط دفاع أول عن النظام في دمشق، وباتت تصريحاتهم ومقالاتهم مادة تدرس وتوزع ويعاد طباعتها وإذاعتها، من قبل أعلام النظام السوري وسفاراته وسفرائه...باتوا قوة طليعية متقدمة للذود عن هذا النظام وبما تعجز عن فعله، أدواته ومنابره وأبواقه الخاصة.

في تفسير هذه الانقلابات في المواقع والمواقف، نميّز بين اتجاهات ثلاث: الأول، محكوم بالبعد المذهبي والانقسام الأخطر في العالمين العربي والإسلامي (السني – الشيعي)، في هذا السياق يمكن تفسير تحوّلات حزب الله ومعه مروحة واسعة من القوى السياسية والمذهبية السائرة في ذات الطريق.

والاتجاه الثاني، قومي ويساري، لم يتعلم درس الهزيمة الأول في حزيران 1967، وظل يهتف بشعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة (الممانعة الآن)، لكأنه يمكن لشعب مُستعبَد من قبل حكامه أن يكون حراً في مقاومة أعدائه ومُحتليه...لكأننا لم نخسر الحرب في حزيران بسبب خسارتنا لإرادتنا الحرة قبلها وفي أثنائها، حتى يصار إلى إعادة “تجريب المجرب” مرة أخرى، ولكن بشعار “لا صوت يعلو فوق صوت الممانعة”...هؤلاء لم يقيموا من قبل “تجربة واحدة في الحرية والديمقراطية” ولا يوجد سبب واحد للاعتقاد بأنهم سيفعلونها من بعد.

أما الاتجاه الثالث، فمحلي في الغالب، وتمثله أصوات لها مصالح وحسابات جهوية وفئوية ضيقة، فمن يخشى تزايد نفوذ الإخوان في الأردن، يؤيد الأسد ونظامه...ومن تسكنه هواجس التوطين والترانسفير التي لا تدور إلا في مخيلته المريضة، يصطف خلف نظام الأسد...ومن يخشى اكتساح “التيار العوني” حليف حزب الله، يصطف خلف تيار المستقبل والسلفية بألوانها .

هو خليط غريب عجيب من قوى ومصالح وحسابات، وفرت للنظام السوري قاعدة من المؤيدين، خارج حدوده...لكن مأساة هذه الجهات مجتمعة، أنها “أقلوية” مهما بلغ وزنها في هذا البلد أو ذاك...مأساتها تكمن في معاندتها للتاريخ الذي قرر على ما يبدو أن يستكمل دورته، وأن يُتمّ جريانه آخذاً في طريقه كل نظم ومدارس الفساد والاستبداد، بدءا بأكثرها دموية واستعباداً.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور