لا توجد نقطة اتفاق واحدة بين النظام والمعارضة في سوريا، لكنهما مع ذلك يتفقان على رفض توصيف ما يدور بينهما من معارك ومواجهات بـ”الحرب الأهلية”...النظام يطارد عصابات إرهابية مجرمة، معزولة ولا قاعدة شعبية لها، وغالباً بالتعاون مع “المواطنين” وبناء على مناشداتهم...والمعارضة تقاتل “عصابة أسدية” معزولة حتى داخل طائفتها العلوية، وهي بانتظار انشقاقات واسعة ستكون كفيلة بتقويض “العصابة” من داخلها...وكلا الفريقين ينسب لنفسه تأييداً جماهيراً كاسحاً ويحجبه عن الآخر.

أمس الأول، نُقل عن السفير السوري في عمان الدكتور بهجت سليمان اعتراضه على أقوال أدلى بها سفير إيران في عمان مصطفى مصلح زادة لمناسبة يوم القدس، وصف فيها ما يجري في سوريا بـالحرب الأهلية” وقال أن ثلث الشعب السوري يقف إلى جانب النظام، وثلثه الثاني يصطف خلف المعارضة، وثلثه الثالث يقف في “المنطقة الرمادية” بين هذا وتلك...سليمان جادل بأن ما تحظى به المعارضة من تأييد لا يزيد عن 10 – 20 بالمائة في أحسن الأحوال (أو أسوئها)، وأن بقية السوريين، غالبيتهم العظمى، تقف خلف النظام وإلى جانبه، وأن ما يجري في سوريا ليس حرباً أهلية، لأسباب عددها، ولعل أهمها وحدة وتماسك “الجيش السوري العقائدي الوطني القومي المقاوم والممانع”.

السفير سليمان استشهد باستطلاع أجرته مؤسسة ممولة من الشيخة موزة زوجة حاكم قطر، وجاء فيه أن 70 بالمائة من السوريين يؤيدون النظام السوري، وأن 55 بالمائة منهم يؤيد الأسد شخصياً...وهذه الأرقام كررها أمس على شاشة الـ”بي بي سي” سفير إيران في بيروت الدكتور غضنفر ركن آبادي، مستنداً إليها في تفسير (تبرير) دعم إيران لنظام يمثل غالبية الشعب السوري العظمى (؟).

بخلاف مواقف الفريقين، فإن معظم عواصم الإقليم والعالم، ترى أن ما يجري في سوريا هو “الحرب الأهلية” بعينها...أصدقاء النظام وخصومه يقولون ذلك، بعضهم يحذر منه ويخشى تداعياته على المنطقة، وبعضهم الآخر يعمل على تأجيجه وتسعير أواره...أما الرفض المزدوج لهذا التشخيص، ومن فريقي الأزمة الرئيسين، فهوموقف “سياسيٌ” بامتياز.

السفير سليمان استند إلى تماسك الجيش السوري (العقائدي) للبرهنة على صحة أطروحته...وجاء بمثالين يدعمان نظريته: الأول من لبنان حيث انهار الجيش قبل اندلاع الحرب الأهلية (1975-1990) وكان انهياره توطئةً ضرورية لاندلاعها...والثاني من العراق، حيث أفضى حل الجيش العراقي وتفكيكه، إلى اندلاع الحرب الحرب في سنوات 2005 – 2008...وفي ظني أن المثالين المذكورين إذ يدعمان هذه الفرضية، إلا إن لبنان والعراق لا يختزلان تجارب الحروب الأهلية في المنطقة والعالم، فثمة تجارب لحروب أهلية بدأت واستمرت لسنوات طوال (وما زالت)، من دون أن يتفكك الجيش النظامي أو ينهار (السودان واليمن على سبيل المثال لا الحصر).

إن لم يكن ما يجري في سوريا هو الحرب الأهلية (المذهبية / الطائفية)، فما هي الحرب الأهلية إذا؟...قتل على الهوية المذهبية، مجازر جماعية، ترانسفير سكاني، فرز ونزوح داخلي وخارجي، خطاب إقصائي إلغائي، استهداف لقرى وأحياء ومدن على أساس هويتها المذهبية، فلتان أمني وشيوع المليشيات المسلحة والعصابات الإجرامية، خطف وقتل واغتصاب وسطو.

جميع ما ذكر من مظاهر الحروب الأهلية وعوارضها، يحصل اليوم في سوريا، وهي يذكر بسنوات الحرب الأهلية الأولى في لبنان والعراق، أما معدلات القتل والقتل المضاد، فقد سبقت سوريا البلدين من حيث ارتفاع كلفة فاتورة الدم، فما سقط خلال عام ونصف العام من قتلى وجرحى وما تعرض له السوريون من خطف واعتقال وتهجير ونزوح، يفوق ما كان حصل في البلدين الجارين لسوريا خلال الفترة المقابلة.

صحيح أن الجيش السوري لم يشهد انشقاقات واسعة كتلك التي شهدها الجيشان اليمني والليبي، وأنه لم يتخل عن النظام أو يتمرد عليه، كما حصل في مصر وتونس...يبدو أن سوريا تقدم تجربتها الخاصة في ميدان الحروب الأهلية، وما كان صحيحاً في بداية الأزمة السورية حين كان المنشقون يعدّون بالمئات، لم يعد كذلك اليوم بعد أن جاوز عدد المنشقين عن الجيش عشرات الألوف، وبتسارع ملحوظ في الأشهر الأخيرة، كماً ونوعاً...فهل من الحكمة بعد كل ما حصل إغماض الأعين عن حقائق ما يجري على الأرض؟

أما “الشعبية” التي ينسبها كل فريق لنفسها وينزعها عن الفريق الآخر، فتلكم حكاية أخرى، تحتاج لمزيد من التمحيص والتدقيق...ففي غياب الاستطلاعات الدقيقة التي لا يُسمح بإجرائها في سوريا، نبقى في إطار التقديرات والتخمينات...وفي هذا السياق أحسب أن خط سير الأحداث، يُفقِد كل من النظام والمعارضة المسلحة، مساحات واسعة من الشعبية والتأييد الجماهيري...النظام الذي ربما بدأ بما يعادل خمسين بالمئة من التأييد (من ضمنهم أساساً الأقليات التي تشكل 30 بالمائة من الشعب السوري)، لم يعد يحظى بعد كل هذا القتل بتأييد مماثل، وأتحدى أن يتمكن النظام اليوم من إخراج مسيرات مليونية كتلك التي حرّكها في بداية الأحداث.

أما المعارضة، فقد فقدت الكثير من التعاطف الشعبي والجماهيري منذ أن علا صوت الرصاص على صوت الجماهير الغاضبة والمحتجة سلمياً ضد نظام القمع والفساد، وأتحدى المعارضة المسلحة أن تنجح في تسيير مظاهرات جماهيرية واسعة حتى في المناطق التي تسيطر عليها، والتي تزعم أنها تقارب السبعين بالمائة من مساحة سوريا (تصريحات حجاب في عمان)...الكتلة الرمادية من الرأي العام السوري تزداد اتساعاً كلما انتشرت صور القتل وجرائم الاختطاف والتدمير المروّعة، والشعب السوري بدأ يضع الأمن والأمان في صدارة أولوياته الوطنية.

معادلة السفير الإيراني في عمان (ثلث مع النظام وثلث مع المعارضة وثلث في منطقة الحياد)، كنت سمعتها من عدد من الدبلوماسيين بعد انتهاء العام الأول للأزمة السورية، وأرجح أنها الأقرب إلى الصحة...أما “استطلاع الشيخة موزة” فلم نسمع به سوى من النظام ومؤيديه، وعلى أية حال، فإن التجربة السورية في مجال استطلاعات الرأي لا تسمح بتصديقه أو تصديق حدوثه أصلاً.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور