لم نعد نسمع كثيراً عن “العدو الصهيوني” في خطاب الحركات الإسلامية بعامة، السلفية منها على وجه الخصوص (هم أصلاً لم يعيروا هذه القضية كبير اهتمام)...اليوم حل “العدو الصفوي” محل “العدو الصهيوني” في صدارة الأولويات و”الاستهدافات”...والمؤسف أن هذا “الانحراف” بدأ يتسلل بقوة إلى خطاب الإخوان المسلمين (بعض تياراتهم وفروعهم على أقل تقدير)، وبصورة تفوح منها رائحة مذهبية كريهة، حتى أن البعض منهم بدأ “يؤصل” للعداوة “الجديدة – القديمة” ويؤرخ لها، من دون أن تعوزه “المبررات الشرعية” التي تخدم عادةً، أية وجهة يقرر هؤلاء السير عليها.

ما لا يقال في البيانات الرسمية والمبادرات، يترك للمنابر و”النواقل الشعبية” لهذه الثقافة...هنا يصبح الحديث بلا حدود أو قيود، بلا حسيب أو رقيب، بلا ضوابط أو برتوكول...تنفلت الغرائز وتُستحضر صفحات الفتنة من بطون التاريخ، ويُقرأ تحرير القدس وفتحها، من منظور صراعات اليوم (السنية الشيعية)...وتُعاد كتابة الفصل الأخير من تاريخنا “الجاري”، فيتقدم سمير جعجع على حسن نصر الله، وتصبح الدوحة عاصمة الخلافة الإسلامية...ويُخفض جناح الذل لحلف “النيتو” من الرحمة بالمسلمين السنة في سوريا...كل شيء قابل للتغيير والتبديل...لا ثابت سوى المصلحة، والمصلحة في الوصول إلى السلطة تبرر الوسيلة..أنها “البراغماتية” إذ تبلغ ضفاف “الميكافيللية” المرذولة.

تحالفات الحرب الباردة يُعاد إنتاجها من جديد...الغرب هو هو، لم يتغير، والأطلسي كذلك، الرجعية العربية يُعاد تقديمها بلبوس “الاعتدال العربي”، الجهاد الإسلامي ضد العدو الشيوعي صار جهاداً عالمياً ضد “العدو الشيعي”...سقط حرف “الواو” فقط، لا أكثر ولا أقل...قوافل المجاهدين التي رعتها الأجهزة العربية والدولية وسلحتها ودربتها ونقلتها، يُعاد تسييرها الآن، وعلى أيدي الأجهزة ذاتها، تارة للضرب في سوريا وأخرى في لبنان وثالثة في العراق ورابعة وخامسة، ودائماً تحت شعار: “وراء العدو الشيعي في كل مكان”، مع الإعتذار من وديع حداد والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

ما يفعله الإسلاميون العرب من رقص على الحبال والخنادق، فعلته تيارات سياسية وفكرية عربية غيرهم من قبل، قوميون تحالفوا مع “الإمبريالية والرجعية والإنعزالية”، ويساريون استمدوا نسغ حياتهم من “الرجعية العربية”، ودائما بهدف الوصول للسلطة أو الإحتفاظ بها...هذا التنقل والتلون شهدناه من قبل...لكن المُفجع هذه المرة، أنه يتم بسرعة وخفة، وفي ظل وابلٍ كثيف من “الفتاوى” و”الصرامة المبدئية”.

لقد قبل هذا التيار بتفرعاته وتلوناته” وضع القضية الفلسطينية أربعين عاماً على الرف (1947-1987)، من حرب 47 – 48 وحتى نشوء حماس في العام 1987...وهو يبدو اليوم مستعداً لوضعها في “البراد” لأربعين سنة قادمة، طالما أنها قضية الأجيال القادمة، والنصر فيها مضمون بالمشيئة الإلهية، وطالما أن “ديار المسلمين” واحدة، إلى غير ما هنالك من تبريرات دفعت بالمجاهدين لمغادرة جنين ونابلس والخليل للقتال في أفغانستان على مبعدة الآف الكيلومترات من المسجد الأقصى الذي كان يحترق بنيران التهويد و”الأسرلة” و”الضم الزاحف”.

تبدلت الأولويات وتغيرت حتى عند إسلاميي فلسطين...خطاب المقاومة بات أثراً بعد عين، لا يُستحضر إلا في “المهرجانات” الاحتفالية، بعد أن فقد قدرته على انتزاع التصفيق والهتاف وصيحات “الله أكبر”...الأولوية الآن لتقاسم السلطة والنفوذ والبحث عن “مال سُني حلال” يحل محل “المال الشيعي” الذي كان حلالاً حتى الأمس القريب...وهو بالمناسبة جاهزٌ بكثرة لكل من قرر إدارة ظهره للجهاد المقدس الوحيد في فلسطين وعلى أرضها.

لم يبق من المقاومة سوى ضجيجها..لم يبق من صورتها سوى “العروق النافرة” للمتحدثين باسمها...حتى المناكفات المعتادة من “سلطة أوسلو” و”نهج المفاوضات” لم تعد رائجة إلا من باب رفع العتب...أما الجبهات العريضة لإسقاط المعاهدات ومحاربة التطبيع فقد حل محلها مظاهرات واعتداءات على عميد الأسرى العرب سمير القنطار الذي جمع “الكفر” من حديه بنظر هؤلاء: فهو درزي تشيع (؟).

وبدل الإنتصار للقدس والأقصى، تجري مقاطعة نشاطات يوم القدس العالمي، لأن مطلقه “شيعي”...بل ويجري الاعتداء على متظاهرين “سنة” بهذه المناسبة لإنهم صدعوا لدعوة إمام “رافضي”...ومن دون أن يكلف القوم أنفسهم عناء إطلاق دعوات بديلة أو تنظيم أنشطة تليق بالقدس وترقى إلى مستوى التهديدات التي تحيق بالأقصى.

قضية فلسطين بنظر هؤلاء، ووفقاً لبرنامج أولوياتهم...مرشحة للترك والنسيان لسنوات وعقود قادمة...لقد فعلوها مرة وليس مستبعداً أن يفعلوها ثانيةً..على أن سيناريو الترك والنسيان ليس أسوأ السيناريوهات التي تواجه فلسطين شعباً وقضية وحقوق...فثمة ما يدعو للقلق من سيناريو “الحلول المؤقتة والإنتقالية”، إسرائيلية الجوهر والمضمون والأهداف، التي قد يجري القبول بها وتسويقها بحجة أولوية الإنسان على الأرض، و”الهدنة” المطلوبة لتمكين المسلمين وهم يشرعون في بناء نظمهم “الإسلامية”...وفي كلا السيناريوهين فإن على الشعب الفلسطيني وكل أحرار الأمة وشرفائها، أن يقلقوا.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور