عشية انعقاد مؤتمر حزب العدالة والتنمية، أطلق رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان “مبادرة” للحوار مع حزب العمال الكردستاني، معرباً عن استعداده للذهاب “حتى أوسلو” إن كان ذلك ضرورياً، في إشارة منه لحورات سابقة بين الجانبين في أوسلو، غلب عليها الطابعان، الأمني والسري.

“مبادرة أردوغان”، جاءت في خضم تصاعد حدة المواجهات الدامية بين الجانبين، والتي أزهقت حيوات ما يقرب من الأربعمائة ضحية من الجانبين منذ مطلع العالم الحالي فقط، وعشرات ألوف القتلى منذ اندلاع هذا النزاع المسلح الذي استطال لأكثر من عقود ثلاثة...وهي تأتي كذلك في ذروة تصاعد حدة “الحرب الأهلية” في سوريا، وتزايد اتهامات أنقرة لدمشق باللعب بـ”الورقة الكردية”، رداً على دعم تركيا للجيش السوري الحر وتسهيلها عمل المنظمات المسلحة والجهادية الناشطة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

يصعب الحكم من الآن، على جدوى وجدية المبادرة التركية الجديدة..ويصعب في هذه المرحلة بالذات، معرفة ما إذا كنا أمام مناورة أم “مبادرة”...حتى الأتراك أنفسهم حائرون في تفسير مرامي تصريحات زعيمهم ومغزى توقيتها..وهم يذهبون في الاتجاهين معاً.

إن كانت مناورة، فإنها تسعى بلا شك، لضرب أكثر من عصفورٍ بحجرٍ واحد: فهي من جهة قد تساعد في حرف أنظار الرأي العام التركي عن “فشل” سياسات حكومته حيال سوريا، وتآكل بريق وزخم “العمق الإستراتيجي” و”صفر مشاكل” و”القوة الناعمة” كما سبق لنا وأن ذكرنا في غير مناسبة...وهي من جهة ثانية، قد تكون صُمِمِت لإحداث الإنقسام بين أجنحة الحركة الكردية “الإنفصالية”، بين من ينادي منها بخيار “الكفاح المسلح” ومن يفضل اتباع طرائق سلمية....وهي من جهة ثالثة، قد تكون محاولة لسحب الورقة الكردية من أيدي النظام السوري وحلفائها في المنطقة، والتي ثبت أنها “فعالة جداً” في إلحاق الأذى بالجانب التركي.

أما إن كانت مبادرة جدية فعلاً، وتستهدف الوصول إلى حلول للمشكلة الكردية، فإن للمبادرة مستلزماتها ومقتضياتها...منها على سبيل المثال لا الحصر، الإقرار بأن هناك مشكلة “قومية” للأكراد في تركيا، تستوجب حلولاً سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية شاملة ومترابطة...ومنها أيضاً، الإقرار بأن “حزب العمال الكردستاني” هو الجهة الكردية “الأكثر تمثيلاً” لهذه القضية وشعبها، وإلا لماذا يختص السيد أردوغان هذا الحزب تحديداً بمبادرته، ما يعني بأن على المقاربة التركية للحزب، أن تضفي عليه صبغة “تثميلية”، ولا تكتفي بالتنظر إليه كجماعة إرهابية خارجة على القانون.

لقد نجح حزب العدالة والتنمية في فتح “كوات” عديدة في جدار “التابوهات” التركية المتوارثة حيال الأكراد ومسألتهم “القومية”، ومن يقارن “موقع المسألة الكردية في السياسة التركية” اليوم بما كانت عليه قبل عشر أو خمسة عشر عاماً، يستطيع أن يلحظ الفوارق الكبيرة، لقد استعاد للأكراد لغتهم ومدارسهم ومحطاتهم الإعلامية ونوابهم الذين يتحدثون باسمهم، لكن تركيا مع ذلك ما زالت بعيدة عن توفير “الحل الديمقواطي” للمسألة الكردية في داخلها...ولم تنجح جميع محاولات “تقزيمها” إلى مجرد “مشكلة أمنية” مع جماعة إرهابية مدعومة من الخارج، بدلالة المبادرة الأخيرة للزعيم التركي الإسلامي.

إن كنا أمام مناورة، فإن حبالها ستكون قصيرة للغاية، بل وأقصر مما يتخيل كثيرون، ذالك أن “المارد الكردي” قد خرج من “قمقمه” بدءاً من العراق مروراً بسوريا، ومن الأفضل لدول الكثافة السكانية الكردية الأخرى (تركيا وإيران)، أن تبحث عن حلول توافقية للمسألة الكردية في دولها، قبل أن تداهمها مفاجآت التاريخ والجغرافيا اللذان وضعا على جدول أعمالهما “عودة كردستان الكبرى” إلى خرائط المنطقة، ولأول مرة منذ قرن من الزمان...فما يمكن الوصول إليه اليوم من تفاهمات وطنية وقومية، قد يصبح متعذراً ما أن تضع الأزمة السورية أوزارها، وتتكشف عن “مولود كردي ثانٍ” بات مرجحاً بنتيجة مختلف السيناريوهات التي ستنتظم الأزمة السورية والمصائر التي ستؤول إليها.

لست واثقاً مما إذا كانت النخب الحاكمة في تركيا، من سياسية ومدنية وعسكرية، قد نضجت بعد لشروط ومقتضيات “الحل الديمقراطي للمسألة الكردية” بكل مندرجاته وموجباته، وأجدني أقرب لنظرية “المناورة” مني إلى “نظرية المبادرة” في تفسير تصريحات رئيس الحكومة التركية...لكن في جميع الأحوال، فإن أنقرة تجد نفسها اليوم، ضحيةً أولى لسياساتها هي بالذات، حيال العراق وسوريا على حد سواء.

في العراق، بدت تركيا ولاعتبارات تجارية و”تحالفية مؤقتة”، حاضنة الكيان الكردي البالغ ضفاف الدولة المستقلة، وأصبح السيد مسعودالبرزاني “وكيلها المعتمد في بلاد الرافدين”...وفي سوريا ساهمت سياسات تركيا في إنضاج شروط انبثاق “كردستان الغربية”، بعد أن قادها “نزق” سياسييها و”تسرعهم” و”حساباتهم الخاطئة”، إلى التنكر للقواعد والمبادئ التي بشر بها حزب العدالة والتنمية في مرحلة صعوده...فما الذي سيجعل “أكراد تركيا” غداً و”أكراد إيران” بعد غدٍ، استثناءً للقاعدة العراقية والسورية؟...سؤال برسم المستقبل القريب.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور