ما إن لامست أصابعها كيس النايلون الذي يرتمي بجانبها منهكاً مخرجة منه بضعة أصابع من الكعك ، ترطب بها معدة باتت تنادي بصوت موجع ، حتى سرح بها الخيال إلى الوراء بعيداً…
أهو الكعك ما حملها إلى ذاك المكان ، أو أنه كيس النايلون أيقظ أشياء حبستها في زوايا النسيان..
تسع سنوات من الغربة من الانسلاخ عن أرض طيبة وإياها ائتلفتا عمراً فباتت لا تدري من منهما ولدت أولاً ..
هي بنفسها اختارت رحيلها عنها بل سعت إليه جاهدة ، ولطالما حلمت بتلك الغريبة المتأنقة بتيه الحضارة والعمران وكنوز التراب….لطالما دعت ربها أن تكون لها المأوى والمثوى…
لا زالت تذكر كيف كانت لسنوات تنقب بين إعلانات السفارات ، وتغز الأرض برفقتها صديقتها الطيبة الودود ، والتي لم تكن لترفض مرافقتها مهما كان المشوار صعباً ، ولربما كان أمل الاغتراب يراودها رغم اقتناعها بتواضع إمكاناتها ..
وها هو الحلم يتحقق ، وتطأ بقدميها تلك الأرض الغريبة في كل شيء ، والتي ما زالت حتى اليوم لا تستطيع أن تحدد لها هوية رغم تزاحمها بالوجوه والأصوات ..
ماذا يمكن أن تذكر عن تلك الخطوات الأولى .. فكثيراً ما حظّها القدر حين أراها عوالم جديدة لا يحلم بها الكثيرون ..لعلّه أراد إشباع ولهها بالجمال بأن متعها بمفاتن الخالق وإبداعاته ..
لمَ ؟ لم َيخطر في بالها كيس النايلون بالذات في هذه اللحظات ؟ ..
مازال ذاك المكان الهادئ الذي نسقته يد البشر ضمن صحراء لا يخطر لك ببال أن ترسم فيها لوحة بمثل ذاك الجمال والاتساق ماثلاً في ذاكرتها..
لم تكن في ذاك الوقت لتستطيع أن تحدد المكان الذي قضت فيه ليلتها الأولى ؛ فقد كانت تحوم في عالم غريب من السحر احتاجت وقتا طويلاً لتفك رموزه ..
كل ما تذكره حافلة صغيرة أقلتها مع مثيلاتها في طريق يتلوى شوقاً لرمال متداخلة الألوان ، والأشكال لا تمل العين رؤيتها ..عندها أسرت في نفسها:
"من قال إن الجمال يتسلق الجبال الخضر والترب الليلكية مستنكراً المدى والكثبان الذهبية "
| ..
كانت الحافلة الصغيرة تقف بعد أن تقطع مسافات طويلة لتلفظ بعضا ً من راكباتها مع حقائب اختلفت حجما ًوشكلا ً كلّ تنطق بصاحبتها .. ائتلاف غريب بين بشر جمعتهم أحلام العيش ومرارة الكدح ..
كان المساء قد ألقى بظلاله المعتمة على ذاك السكون ، فزاده بها وجلالاً وانتشاءً حين ضمتها جدران بيت متنافر بكل ما فيه ، تناهت إلى سمعها أصوات تعلو تارة وتخفت أخرى .. متنافرة هي الأخرى غير أنها لم تعجز أبداً أن تجد لها زاوية ألفة بينها .. ..
أطلق الصبح زفرته الأولى بعد ليل من التعب والضجيج .. لا تذكر إلا أنها أشرعت لنافذة جانبية أزرار قميصها ، فإذا هي تتكشف عن مدىً ناهد بالخضرة التي ترى ألوانها قد انتقيت لوناً لوناً ، لتصطف في تناغم هرموني مغرق في الروعة..
تذكر أنها أطلقت صرخة انبهار مصحوبة بدعاء فطري " رباه ليتني أعيش في هذا المكان " ..
ما أروع السماء حين تلبي دعوات عفوية بسيطة ! ..لم يكن في بالها أن تعود إلى هذا المكان حيث ما كان إلا استراحة صغيرة في الطريق إلى دار الإقامة المقررة لها ..
قدر لها أن تكون لها غرفتها الخاصة التي ضمتها ، وابنتها التي لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها ..أهو الحظ أيضا أن تكون لها تلك الابنة الرائعة التي أغنتها عن أن تشاركها الغرفة واحدة ممن عج بهن السكن المدرسي، واللواتي كن يسابقن الصبح في الذهاب إلى العمل ، وما إن تضمهن جدران السكن حتى تقفل الأبواب على نفسها، وكأنها خائفة من أن يسترق شقّ من الضوء النظر إلى أجساد صاحباتها..
وفي كل حين ، وبعد فترة من الزمن لم تكن لتطول كان يسمع صوت عجلات لسيارة ، وزعيق جرس يرافقه طرق قاس على الباب يعكر صفو هذا الدار المسكينة، ويتعالى صوت أجش بليد يسبقه حذاء مدبب الطرف لامع ترى صاحبه يصر أن يثير به الانتباه ، وقد ظن أنه فاق به دور الأزياء والموضة .. وما إن يتعالى صوته الأجش الذي تطل منه ضحكة صفراء استمدت شحوبها من جرح النفوس وقضّ مضاجع المعلمات الساكنات ، حتى ترى الأبواب كلها مشرعة بتوقيت واحد ، وكأنها تلقت أمراً عسكرياً لا مفر لها من تنفيذه ، تسبقها رعشات قلوب، ونظرات خوف وترقب | |
من تراها القادمة الجديدة التي ستحشر بين هذه الجدران ، وتزيد خناقه
وأنينه ؟ | ومن تراها تلك البائسة التي سقط عليها الرهان بأن تحزم حقائبها المتنافرة، لتحملها الحافلة ، وتلقيها إلى رصيف آخر | | ..
تهادى وجه غادة الرقيقة الناعمة أمام ذاكرتها.. غادة التي إذا تحدثت همست، سلخت قلبها عن طفلة صغيرة بعد زواج لم يدم لشهور مكتفية برؤيتها مرتين كل عام وراحت تغزّ الخطوَ ..تصارع لقم العيش في هذه الأرض المريرة..
كانت تشعر أنها تشبهها كثيرا سوى أنها أصرّت أن تحمل معها ابنتها لتشجعها أنفاسها ، وأطياف الورود في عينيها على مواصلة الطريق، ومواجهة الأقدار .. غادة التي كثيرا ما التقتها في القسم السفلي من السكن تهبط سلّم الدار نسمة هادئة يسافر عبقها إلى غرفتها المقابلة للمطبخ فيجذبها ذاك العبق إلى حديث تتناقلان معه أخبار العمل وأسرار الألم ..هي واحدة من ساكنات هذه الدار اللواتي أقفلن على القلوب الأسرار ، والمشاعر التي فضحتها صور صغيرة لأبناء أو أزواج سلخوا عنهن قهراً ملقاة في جوانب الغرف المبعثرة بالكتب ، بالأوراق ، وبأوان ٍ بسيطة للطعام ، غفلت كل منهن عن أنوثتها أو أغلقت عليها درج خزانة أودعت مفاتحها غبار الزمن ...
وهاهو وجه غادة الرقيق الناعم ، يزيحه وجه كانت تكثر من استراق النظر إليه في محاولة لتحديد خطوط له .. هو بتنافره قريب من هذه الأرض ؛ فقد تربع جسداً نحيلاً ، متصدراً رأساً تتدلى منه ضفيرة بدائية لا يقدر لك أن تراها حرة ، أو متباهية بلونها الذهبي مرةً، مبللة بالماء هي أبدا دونما إشفاق ..
عينان سارحتان دون توقف .. وجه قاس ما تعرف له عمراً رغم رشاقة صاحبته ، وحركتها الدائبة ما بين الصحون ، والحمام ، وغسيل الأكياس... |
من باب غرفتها الشفاف المطل على حوش بسيط أجرد لا تؤنس وحشته إلا شجيرة تناساها الزمان تتدلى أوراقها بذل إلى الأرض الجافة من كل شيء ، حتى من نبتة شائكة تلقي في أوصاله رعشة، أو دفقة دفء.. ترقبها تعلق أكياساً من النايلون .. عدداً هائلا ً من الأكياس كأنها هربت من دكان بقال ، أو مخزن كبير .. وكثيرا ما استغربت لم َ تجمع تلك الأكياس ؟ ولمَ تغسلها ؟ وكيف تنشرها بألفة الأم على ذاك الحبل العجوز المتسمر منتظراً أجله | | ..
ساعات تقضيها وهي تمسّد الأكياس .. تنفضها تارة ، فيتساقط رذاذ الماء منها ثم تعود لتنيمها بحنو كبير فوق ذاك الحبل ، ويداها، وعيناها تسرحان في نقطة واحدة تشك أنها حادت عنها مرة .. وإن استفاقت فلأنها تذكرت أن لها في الغرفة ابناً لم يتجاوز سنواته السبع غفلت عنه وقد أبكمت صوته وفرحه الطفولي ، وأنست ساقيه الريح ، وصداقة الطرقات لا تراها إلا وهي تفرك جسده المرتعش بالماء ، وببقايا صابون تكرر استعمالهما تخفيهما في غرفة صغيرة تحت سلم البيت خصصت لتلقي بها الساكنات ما فاض عنهن ، أو ما تركنه ليصطحبنه معهن حين يحين السفر، غير آبهة باضطراب الجو ما بين بردٍ وحّرٍ .. تلك الساكنة كانت تثير حيرتها سيما حينما ترفع صوتها القاسي الذي حسبته للوهلة الأولى صوت رجل دخل الدار بطريق الخطأ .. ذاك الصوت الذي كان يثير تغامز ، وسخرية طالباتها المراهقات في
المدرسة ..
هي تركيبة غريبة ،من القهر والسخط والتلاشي .. تراها العين فتحسبها خيالاً يطوف دون حاجة إلى أن يستقر في مكان ..لا تشعر بوجوده إلاّ إذا سمعت ذاك الصوت الغريب الذي يصدر من قاع مالها حدود ، وهو يرتفع في وجه ساكنة ممن يقمن في الدار ، معلناً عصيانه على إهمال في تنظيف فرن الغاز في المطبخ المجاور، أو تقصير في تنظيف الفسحة المشتركة الموزعة لغرف الدار .. حتى هي لم تسلم من صوتها في الأيام الأولى لمجيئها الدار ؛ فقد كانت هي الأخرى تستلذّ في نشر مشاعر الرعب ، والخوف في قلوب القادمات الجديدات .. لكنها استطاعت أن تضع لها حداً منذ الوهلة الأولى ، رغم أنها استغرقت جهداً، وهي تواجهها في رسم تعبيرات قاسية على ملامح وجهها الحنون الذي لا يخفى حنوه على أصغر كائن ..
تلاحقت الصور أمام عينيها شريطاً لا ينتهي ، في حين كانت أصابعها تتحسس الكيس الملقى إلى جانبها ..... شعرت أنها تحتاج لأزمان لتوقظ تلك السنوات التسع.. .. أزمان من الوجوه ، والملامح .. أزمان من حبال الغسيل وأكياس النايلون.. ..
أهي الغربة جعلت كل شيء جافاً حتى الملامح | .. أهي الغربة جعلتنا نسكت أصوات القلب ، ونأسر سيقان الأطفال | ..أهي الغربة جعلتنا نحشر رؤوسنا في أكياس من النايلون باحثين عن جذوة من الدفء ؟؟......
المراجع
موسوعة القصة السورية
التصانيف
الادب
مقالات قد تهمك
-
الكاتب, محمد صباح الحواصلي-أميركا بعد فوات الأوان
-
الكاتبة, أروى طارق التل-الأردن عيد ميلاد
-
الكاتب, صبري عبد الرحمن رسول-السعودية
-
الكاتب, محمد صباح الحواصلي-أميركا تجليد أزرق
-
الكاتب, حسن عبد الرزاق-العراق المعجب بغبائه
-
الكاتب, مازن رفاعي-رومانيا
-
الكاتب, ريان عبد الرزاق الشققي-السعودية انعدام الوزن والذقون
-
الكاتب, ريان عبد الرزاق الشققي-السعودية الوقوف على الجمر
-
الكاتب, د. حميد الحاج-بريطانيا
-
الكاتب, إسلام طالب أبو شكيّر-الإمارات العربية المتحدة ديجيتال
|