على مدى السنوات العشر الفائتة، طفح الخطاب اليساري والقومي بالشكوى من استفحال “ثنائية الدولة والإخوان”، بيد أن أصحابه عجزوا عن شق “طريق ثالث” برغم محاولاتهم المتكررة لتشكيل قطب جديد، يحدث التوازن المطلوب في علاقات القوى المجتمعية وتوازناتها، ويوفر مظلة لمن هم خارج إطار هذه الثنائية، ويرون فيها سبباً للإضرار بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية للفئات التي يمثلونها، ولكل ما نشأوا عليه من مبادئ وقيم وأفكار.

الحديث الناشئ عن حلف جديد بين “الدولة واليسار”، لم يغير أبداً في جوهر هذه الإشكالية، ومرد ذلك يعود لسببين اثنين: الأول، أن المؤتلفين مع “الدولة”، ليسوا اليسار بكليته أو بتياراته الرئيسة، وكذا الحال بالنسبة للقوميين..والثاني، أن ما يُشاع عن حلف هو في واقع الحال أقرب ما يكون إلى الاستلحاق، وبما يعزز “الثنائية المذمومة” ولا يبددها، برغم كل الصخب والضجيج الإنشائي المحيط بالقضية..دع عنك قضية الأحجام والأوزان، التي نعرف جيداً ويعرفون، أنها شديدة التواضع، وسننتظر هدأة “المعارك” الانتخابية، حتى تتبين الأوزان والأحجام، بلغة الأرقام والنسب المئوية.

ليست المرة الأولى التي تُطرح فيها قضية “موقع اليسار والقوميين” حيال “ثنائية الدولة والإخوان”..وليست المرة الأولى التي يلتحق بها يساريون وقوميون بأحد قطبي هذه “الثنائية”..وانظروا إلى المآلات التي انتهى إليها معظم إن لم نقل جميع، من حاول تقليد “مشية” غيره ونسي “مشيته”.

من يقرأ قائمة “الأحزاب القومية واليسارية” على سبيل المثال، يلحظ أنها صممت على مقاس “مقعد واحد”..لو كانت لدى هذه الأحزاب أوهام حول فرص النجاح، لسارع أمناء عامون آخرون، للالتحاق بركب القائمة، ولما زجوا فيها بكوادر من الصف الثاني والثالث، ولا أدري في واقع الحال، لماذا تخوض هذه الأحزاب الانتخابات بقائمة ناقصة (14 من 27)، وما الحكمة أو السبب وراء ذلك؟...ولماذا يخوض اليسار الضعيف والممزق الانتخابات بأكثر من كتلة، فضلا عن “المقاعد الفردية”..أسئلة لا تبحث عن إجابات بقدر تعبيرها عن عمق المأزق.

نبحث عن دوافع حماس بعض اليسار وبعض القوميين للمشاركة في الانتخابات، ونسج عرى تحالف جديد مع “الدولة”..فلا نجد فيها سوى قاسم العداء المشترك للإسلاميين، وهناك في واقع الحال من يذهب بعيداً في العداوة للإسلاميين، يصل حد تخوينهم، واتهامهم بالتفريط بالبلاد والعباد، وتهديد الكيان والوجود، وهذا ما لم تجرؤ على فعله، حتى أكثر التيارات “المحافظة” و”العرفية” تطرفاً في تاريخ المملكة.

هناك من يريد أن يصفي حسابات مع “إخوان سوريا” الذين يلعبون دوراً حاسماً في الصراع مع النظام في دمشق..وهناك من يريد تصفية الحساب، وإن بأثر رجعي مع “إخوان العراق”، الذين كان لهم إسهامهم “المتواضع” في إسقاط نظام البعث العراقي..وهناك من يريد أن يثأر من “الإسلاميين” بكل صنوفهم ومدارسهم لإسهامهم النشط في الإطاحة بنظام القذافي...وهناك طائفيون وإقليميون، يكرهون “الإخوان” لأسباب معروفة وغير خافية على أحد، في صدارتها، انتماؤهم الديني المُختلف، ونفوذهم في أوساط الفلسطينيين والأردنيين من أصول فلسطينية..مثل هذه الدوافع، لا تصلح لتشكيل ائتلاف قومي - يساري، يمكن أن يشق طريقاً مستقلاً، أو أن يكون “حليفاً” لـ”الدولة” أو لأية جهة أخرى.

والحقيقة أنه من الظلم القول أن حلفاً جديداً قد نشأ..وأن اليساريين والقوميين، هم أحد طرفيه، ذلك أن الكتلة اليسارية الأكبر ما زالت خارج هذا التحالف، وفي مقدمها الحزب الشيوعي “غير المشارك” في الانتخابات، وحزب الوحدة الشعبية (المقاطع لها)، فضلا عن تيارات ومجاميع وشخصيات قومية و”يسارية اجتماعية” تراوح ما بين “المقاطعة” و”عدم المشاركة”، ولكنها لم تصل في خطابها السياسي حد التبشير بالانخراط في حلف مع “الدولة” ضد “الإخوان”.

كما أنه من المبالغة القول، أن “اليسار المؤتلف”، يعبر عن العامود الفقري للحراكات الشبابية والشعبية الناشئة من “خارج رحم الأحزاب السياسية”...فكثير من هذه الحراكات ما زال يبحث عن طريقه..بعضها مُستمسك باستقلاله، وبعضها “مؤتلف مع الإخوان” وبعضها الآخر، يجنح للانخراط في “التحالف الجديد”.

حكاية الحلف الجديد، صدرت في الأصل عن “اليساريين” و”القوميين” المتحمسين للاستقواء بالدولة ضد الإخوان...وهي تذكرنا بنظرية “الحلف الاستراتيجي” مع الاتحاد السوفياتي قبل انحلاله، والتي كان قادة الفصائل اليسارية يفاخرون بأنهم أنجزوها في موسكو ومعها..ولكن عندما كنت تسأل “الرفاق السوفيت” عن هذا الحلف، كانوا يجيبون بضحكة مفتعلة، فيها الكثير من الاستخفاف والإشفاق...فأن تكون على علاقة مع موسكو شيء، وأن تكون حليفاً استراتيجياً لها شيء آخر..الحلف يتطلب ما هو أكثر وأبعد من عناصر وأسباب الالتقاء العرضي والمؤقت...يتطلب التقاءً في الرؤية، ويقوم بين أنداد ومتكافئين، أو أقله بين قوى وازنة لديها من أسباب القوة والتأثير، ما يمكن أن يُحدث فرقاً.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور