أجواء القاهرة الملبدة بأزماتها الداخلية، تبعث على الارتياح “فلسطينياً”..فتح وحماس ستجريان جولة هامة (لا نريد أن نقول حاسمة) على طريق استرداد الوحدة واستعادة المصالحة..حماس تذهب إلى الاجتماعات منتشية بنصرها في قطاع غزة، وفتح ستلاقيها في القاهرة بعد أن اشتد أزرها بانتصارها في نيويورك ومهرجانها “المليوني” في غزة..أما الوسيط المصري (الرئاسة)، فقد تعلم الدرس جيداً في مفاوضات التهدئة والهدنة، وبات على قناعة أقرب “للمؤسسة المصرية” منها إلى “جماعة الإخوان”، بضرورة تحصين “الهدنة” بالمصالحة، وهو يريد الهدنة أكثر من أهل غزة، ويرى فيها مصلحة له ولمصر، قبل أن تكون مصلحة لحماس والفلسطينيين.
لكن المشهد الفلسطيني ما زال بعيداً نسبياً عن إغلاق بعض الملفات العالقة بين فريقي الانقسام..وهي هنا الحكومة والانتخابات والبرنامج السياسي والمنظمة، فضلاً عن “المسكوت عنه”، ملف الأجهزة الأمنية المتوازية في الضفة والقطاع..وهي ملفات وإن بدت من “العيار الثقيل” إلا أن سبل طيّها، ما زالت مفتوحة، وسيكون إقفالها ممكناً، إن توفرت النيّة والإرادة لدى الطرفين من جهة، وإن أمكن تحجيم دور ونفوذ قوى الانقسام وطحالبه المستفيدة من استمراره، من جهة أخرى.
ونأمل أن تجنح حماس لخيار الذهاب إلى الانتخابات، وأن تتجاوز مخاوفها التي تجددت بعض مهرجان فتح المليوني..فتبادر إلى تسهيل العمل الفني/ اللوجستي لمفوضية الانتخابات الفلسطينية في القطاع، تحضيراً للاستحقاق..كما نأمل أن يجنح الرئيس لقبول تشكيل حكومة الوحدة، متخلياً عن مخاوفه من تحوله إلى رئيس وزراء دائم، وليس مؤقت كما يريد ويشترط، فينتهي أحد أخطر مظاهر الانقسام (وليس الانقسام نفسه)، وتُستعاد الصلة السياسية بين شطري الوطن الفلسطيني المحتل والمحاصر.
على أن الاستحقاق الانتخابي نفسه، بات بحاجة إلى إعادة نظر وتقييم في ضوء الظروف المستجدة، وأهمها امتلاك فلسطين مكانة الدولة (غير العضو) في الأمم المتحدة..فضلاً عن الانسداد المزمن والمستمر لخيار التفاوض و”حل الدولتين”، وتآكل مكانة السلطة والحاجة لإعادة موضعتها وتعريف دورها في النظام السياسي الفلسطيني، الأمر الذي يطرح أسئلة من نوع: هل ينتخب الفلسطينيون رئيساً للسلطة، للمنظمة أم للدولة التي جرى الاعتراف بها؟..ما هي نتائج كل من هذه السيناريوهات في ميزان الربح والخسارة؟..كيف سيكون موقف إسرائيل من أيٍ منها، وكذا المجتمع الدولي؟..واستتباعاً هل الانتخابات ممكنة أم لا، بمشاركة الجميع (بمن فيهم حماس والجهاد)، وفي كل المناطق (بما فيها القدس)، أم لا؟.
وأرى أن يبادر “الوسيط المصري” إلى شق طريقين متوازيين للحوار المفضي للمصالحة: الأول، ويتعلق بترجمة ما اتفق عليه في حوارات القاهرة الدوحة، بوصفه أمراً إجرائياً- عملانياً، يساعد في بناء الثقة واستعادة روح الوحدة الوطنية، وتبديد حالة اليأس والإحباط..والثاني، ذي طابع سياسي- استراتيجي، يتعلق بصوغ البرنامج الوطني الفلسطيني الإجماعي..وهنا أيضا تقفز إلى السطح، جملة من الأسئلة والتساؤلات: هل الفلسطينيون بحاجة لميثاق جديد يعرف حقوقهم الاستراتيجية ويؤطر كفاحهم طويل المدى من أجل الحرية والاستقلال، ويقرر أدوات الكفاح ووسائله..هل يمكن الاكتفاء بالمثياق الحالي، أم العودة للميثاق قبل تعديله؟..هل يمكن الاستغناء عن كل هذا وذاك، والاكتفاء ببرنامج يلحظ حق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة فوق الأراضي المحتلة عام 1967، ويترك لكل طرف أمر التعبير عن استراتيجيته للمآلات النهائية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟..وماذا عن خيار المقاومة، المسلحة منها بشكل خاص، لا سيما بعد تجربة الحربين الأخيرتين على قطاع غزة؟..هل يُكتفى بالمقاومة الشعبية السلمية كعنصر إجماع، هل يمكن تمييز غزة عن الضفة من حيث أشكال المقاومة المعتمدة، هل يمكن تعميم نموذج مقاومة غزة على الضفة، أم المطلوب تعميم نموذج مقاومة الضفة على القطاع؟..أسئلة وتساؤلات، لا يمكن لاجتماع واحد أو اثنين توفير الإجابة الموحدة عنها، وهي أسئلة راهنة بكل ما تعنيه الكلمة، لذا يتعين شق طريق موازٍ للبحث فيها، فيما إجراءات التقارب وبناء الثقة واستعادة الوحدة، تأخذ طريقها إلى حيّز التنفيذ.
في المسار الثاني (الموازي) و”طويل النفس”، للحوار الوطني الفلسطيني، يجب أن تبحث أيضا مختلف السيناريوهات المستقبلية المتصلة بالقضية الفلسطينية، واستتباعاً، إعادة النظر في شكل ومضمون “النظام السياسي” الفلسطيني القادر على مواكبة أكثرها “صلاحية” و”جدوى” في خدمة تطلعات الشعب الفلسطيني وآماله في انتزاع حقوقه المشروعة..هذا أمر، لا يمكن الوصول إلى توافق وطني سريع وناجز بشأنه، ولا يجوز أن يكون في المقابل، عائقاً على طريق التقدم بخطوات للأمام على طريق المصالحة والوحدة..والاستراتيجية الأنجع والأنجح في ممارسة دور “الوسيط”، تستوجب تفكيك هذه العناوين، والبناء على ما يتم التوافق بشأنه، وترك العناوين الخلافية والإشكالية، لبحث معمق، هادئ ومستمر..بهذه الطريقة، وبها فقط، يمكن سحب الذرائع و”الأوراق” من أيدي المتربصين الكثر بالمصالحة والوحدة و”الوساطة المصرية”، من داخل الساحة الفلسطينية أولاً، وفي إسرائيل ثانياً، وفي بعض العواصم الإقليمية والدولية ثالثاً..فهل تفعلها مصر هذه المرة؟..هل يفعلها عباس ومشعل هذه المرة؟..سؤال برسم الأيام القليلة القادمة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور