في الجدل الممتد لأكثر من عشر سنوات، ظل المعارضون لاعتماد “النسبية” في إطار نظام انتخابي مختلط، يتذرعون بالخشية على “هوية” البرلمان كمؤسسة سيادية، وهو التعبير الذي طالما قُصٍد به، الحيلولة دون تمكين الأردنيين من أصول فلسطينية من الحصول على تمثيل نيابي عادل، لكأن هذه الشريحة من السكان ليست أردنية إلا في الواجبات، أو لكأن “الهوية الأردنية” يمكن التفكير بها من دون مساهمة هذه الشريحة الواسعة من السكان، في الثقافة والفكر والفن والأدب والإبداع والمعمار والاقتصاد والسياسة، أي في بناء الهوية الجمعية للأردنيين.
على أية حال، ها نحن اليوم أمام أول تجربة يُعتمد فيها نظام النسبية، وإن بشكل “ممسوخ” وليس له مثيل في الأنظمة الانتخابية في العالم (18 بالمائة للقوائم و82 بالمائة للدائرة المحلية)..وها هي النتائج الأولية للانتخاب تعطي أجوبةً ملموسة على مخاوف وهمية، مبالغ بها حدّ التطير، دع عنك بطلان أساسها الحقوقي والأخلاقي القائم على أساس التمييز بين المواطنين وفقاً لمنابتهم.
من أصل 27 نائبا وصلوا البرلمان عن طريق القوائم، أقل من ربع هؤلاء من أصول فلسطينية..فهل يطمئن الخائفون على “الهوية الوطنية”، وهل يهدأ روعهم من التهديد المُحتمل لانقلاب الموازين والمعايير والأوزان والهويات، إلى غير ما هناك من تحذيرات متطًيرة، أُريد بها توظيف فزاعة التوطين والوطن البديل إلى أقصى الحدود، ولأسباب داخلية محضة، معظمها ينتمي لعوالم المصالح والحقوق المكتسبة ونظام الامتيازات، ولا صلة لها من قريب أو بعيد، بمواجهة خطط العدو ومؤامراته.
لقد سقطت الفزاعة، وصار بالإمكان بعد الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير، أن نبحث في قانون الانتخاب المقبل، بقليل من الذعر والقلق والتحسب..فالقانون الحالي، جائر وغير منسجم مع أبسط المعايير الدستورية (الأردنية) والقيم العالمية..والمأمول أن لا يركن “القوم” إلى حصاد الانتخابات، باعتباره نهاية مطاف مسار الإصلاح، المطلوب أن يُنظر للحدث بوصفه محطة على طريق طويل.
في ظني أن التوسع في تخصيص مقاعد للقوائم على حساب الدوائر المحلية، سيما تلك المبالغ في تمثيلها، هو أمر مطلوب حتى لا ننتهي إلى برلمان بحجم البرلمان الصيني، ولا أحسب أن نظاماً مختلط، تقل فيه نسبة المقاعد المخصصة للتمثيل النسبي عن نصف مقاعد المجلس، يمكن أن يُحدث تغييراً حقيقياً في معادلة التغيير والإصلاح.
وأحسب أن اعتماد القائمة المفتوحة بدل المغلقة، سوف ينجينا وينجي الهيئة المستقلة من “عذاب الفرز والعد الأليم”..ويفتح الباب لبناء ائتلافات حزبية ووطنية واسعة، وبما يقلص أعداد القوائم المشاركة في الانتخابات..وأقترح أن يجري تخصيص مقاعد مضمونة للنساء على “متن” هذه اللوائح الوطنية، بدل نظام الكوتا المعمول به حاليا، الذي استنفد أغراضه، والذي تعد طريقة احتساب الفائزات بموجبه، مجحفة للغاية، وتميزية بامتياز.
ويمكن أن ينص القانون على وجوب أن تقتصر مهمة تشكيل القوائم على الأحزاب السياسية، على أن يكون من حق هذه الأحزاب، أن تأتي بشخصيات وطنية على قوائمها، وفقاً لمستوى التلاقي والتقارب السياسي..فهذا هو طريق تشجيع المواطنين على الانخراط في العمل الحزبي وتشكيل أحزاب سياسية جديدة، كما أنه الوسيلة التي يمكن بها، تطويق نفوذ المال السياسي وأصحابه.
على الرغم من المناخات المُحبطة التي جرت فيها الانتخابات (بفعل القانون أساساً)، وبرغم مقاطعة قوى وشخصيات حزبية ووطنية وازنة للعملية الانتخابية، إلا ان مجرد تخصيص 27 مقعدا فقط للقوائم الوطنية، كان كافياً لمنح هذه الانتخابات مذاقاّ مختلفاً، وأضفى على نتائجها بعضاَ من الإثارة بعد سنوات من الرتابة والملل، ولقد رأينا وإن بشكل محدود، نخباً تصعد وأخرى تذوي، ودخلنا لأول مرة (وإن جزئياً) في امتحان الأحجام والأوزان، ولكم أن تتخيلوا لو أن الانتخابات جرت في ظل قانون مغاير، وبمشاركة الجميع..لكم أن تتصوروا كيف كان الجدل حول الانتخابات ونتائجها، أن يتخذ طابعاً سياسياً وبرامجياً مثيرا.
لقد آن أوان التخلص من “الهواجس” التي حكمت صياغة قوانين الانتخابات ورسم خرائطها..والتي أدت من ضمن ما أدت، إلى إضعاف الحياة الحزبية، وانتعاش الهويات والكيانات الثانوية من محلية وعشائرية وحمائلية..آن الأوان لحسم أسئلة المواطنة بحقوقها المتساوية وواجباتها المتساوية..آن الأوان، لدفع التردد جانباً والمضي بثبات على طريق الإصلاح والتغيير...آن الأوان لترك نظرية “أيهما أولاً، البيضة أم الدجاجة”، نطور الأحزاب أولاً، أم نتبنى قانون انتخاب يعتمد النسبية..فهذا الجدل العقيم، ثبت بؤسه وانكشفت وظيفته في تأجيل استحقاق التحول إلى ديمقراطية قائمة على التعددية الحزبية والحكومات البرلمانية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور