ما من مصطلح أكثر غموضاً والتباساً وإثارة للجدل والاختلاف مثل مصطلح “الدولة المدنية – الديمقراطية” الذي بات يتردد كـ”اللازمة” وبكثرة لافتة في أدبيات الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء..وبدل أن يكون هذا “المفهوم” أساساً صلباً للوحدة والالتقاء بين مختلف مكونات حركة التغيير والإصلاح العربية، نراه يتحوّل إلى سببٍ للفرقة والانقسام وصراعات الشوارع والميادين.

الإسلاميون (الإخوان وبعض المدارس السلفيية)، يتحدثون عن الدولة المدنية غالباً، أما الديمقراطية فيجري ترديدها بصورة أقل، لكن “مدنية” الدولة عندهم، لا تتعارض مع “تطبيق الشريعة”، فالإسلام من وجهة نظرهم، دينٌ ودولة، وهم لا يؤمنون بوجود فضاءين منفصلين، واحد للدولة والسياسة، والثاني للدعوة والدين، مع أنهم يقولون أن لا “إكليروس” في الإسلام، ولا “دولة دينية” فيه، لكأن الدولة لا تكون دينية إلا بنظام الكهنوت والرهبنة..أوليست “دولة الشريعة” هي دولة دينية، وبامتياز؟، حتى وإن قام عليها رجالٌ بربطات عنق وبدلات ممهوة بتوقيع إيف سان لوران؟..سؤال مفتوح برسم حوار فكري وسياسي، نأمل أن يُفتح بصورة حضارية لائقة.

أما الديمقراطية عندهم، فهي ليست في الغالب الأعم، سوى “آليات الانتقال إلى السلطة”، ليست ثقافة ولا قيماً، والمؤكد أنها ليست قواعد لحماية حقوق الأفراد والجماعات، وتنظيم التداول على السلطة..هي “آليات” حديثة للوصول إلى الحكم، أما شكل الحكم ومضمونه، فمتروك للقوى التي ستأتي بها صناديق الاقتراع، شكل النظام ومضمونه، تقرره قوى الأغلبية، فتنشئ حكماً إسلامياً أو غير ذلك.

وعبارة “الشعب مصدر السلطات”، تندرج في هذا السياق، وفي هذا السياق فقط، أي سياق “الآليات”، فـ”السيادة” دائما لشرع الله أو فطرة الإنسان، والفطرة مُعطى سابق، لا دخل للبشر فيه..فتؤول الديمقراطية بهذا المعنى، إلى وسيلة للوصول إلى الحكم، وبعدها يخلق الله ما لا تعلمون.

بهذا المعنى، تكاد مواقف الإسلاميين تتماهى مع مواقف “الأحزاب اللينينية” في نظرتها لـ”الديمقراطية الرأسمالية”، وأقول “اللينينية” بما هي ترجمة روسية/فلاحية أكثر تشدداً (تخلفاً) للماركسية الأوروبية، فهي وسيلة للوصول إلى الحكم، ومن بعدها سيكون بمقدور الطبقة العاملة أن تفرض “ديكتاتورية البروليتاريا”، وأن تضع حداً نهائياً للديمقراطية البروجوازية، التي هي في أحسن الأحوال، وسيلة لتقرير أيٍ من “البرجوازيين” سيواصل قمع الطبقة العاملة ونهبها للسنوات الأربع القادمة.

العلمانيون، ومع انتشار الموجة الإسلامية (الصحوة كما يحلو للإسلاميين أن يصفوها)، باتوا مترددين و”خجلين” من البوح بـ”علمانيتهم”..تارة بسبب الخشية من “التكفير”، مع أن إقامة التماثل بين العلمانية والكفر أو الإلحاد، هو ضرب من السذاجة المعرفية..وتارة ثانية بسبب رغبتهم في تفادي الاصطدام بجمهور الحركات الإسلامية الواسع والعريض..فنراهم يتحدثون عن “الدولة المدنية – الديمقراطية” بوصفها “الإسم الحركي” و التعبير الدبلوماسي الملطلف للدولة العلمانية.

وهناك تيارات ترفع “العلمانية” إلى مستوى الدين أو “اللاهوت”، من دون تمييز بين علمانية شرسة مناهضة للدين، غير مكتفية بالفصل بينه وبين الدولة، وعلمانية معتدلة ومتصالحة مع الدين، ولكنها تميز بين فضاء الدين وفضاء السياسة..نراهم يقيمون تماثلاً بين العلمانية والديمقراطية، وهذه مقاربة تتنكر لحقائق التاريخ، قريبها وبعيدها..فالعلمانية يمكن أن تكون مدنية وديمقراطية وتعددية، ويمكن أن تكون فاشية وديكتاتورية متعسفة..ومن باب “التورية”و”سكّن تسلم”، نرى العلمانيين وقد آثروا الهروب إلى مفهوم “الدولة المدنية – الديمقراطية” تجنباً من الإحراج وتوخياً للسلامة.

في غمرة هذا الجدل، المحتدم على مستوى الأفكار و”الشوارع المصطدمة”، يغيب مفهوم “الليبرالية” أو يتراجع كثيراً في الأدبيات السياسية والفكرية لحراكات الربيع العربي وأحزابه، سيما بعد أن بات ملتصقاً بالمصطلح المرذول: “النيوليبرالية” والذي يفتح على “النهب والجشع” الاقتصاديين، و”الخصخصة الشرسة” المُتخففة من أية “حساسية اجتماعية” والمرتبطة عادة بشروط صندوق النقد الدولي، فتغيب عن الجدل تماماً، منظومة “الحقوق والحريات الفردية”، وتتلاشى “المساحات المحمية” للأفراد، وتصبح مثقلة بشروط “الأوطان” و”الجماعات”، وفي مقاربة لا تتورع عن تقديم المبررات لنظم قمعية في قتل شعبها، بذريعة حماية “الوطن” و”الهوية” و”الموقع” و”الدور” و”الدين” و”الشرع” و”الشريعة” و”رسالة الأمة” إلى غير ما هنالك.

نحن بحاجة لحوار سياسي – فكري، يتخطى الشعارات بعموميتها وهياكلها العظمية الميتة، إلى ما يمكن أن يكسوها بـ”اللحم” و”الشحم” و”الدم” و”الأعصاب”..نحن بحاجة لتفكيك هذه المفاهيم وإعادة تركيبها، بحاحة لـ”دسترتها” و”قوننتها”، بحاجة لتشربها وتشريبها لأجيالنا الحالية والقادمة، بوصفها ثقافة وتربية ونمط حياة ونهج وسلوك..فمدنية الدولة لا تعني شيئاً إن لم تكون في مواجهة مع محاولات “عسكرتها” و”تديينها”..والديمقراطية ليست مجرد “آليات” و”صناديق اقتراع” تعطي الفائزين بأغلبية الأصوات (المتغيرة دوماً) الحق في فرض نظامهم الشمولي الخاص على الجميع، وحرية الأفراد مقدمة على سلم الأولويات، ولا يجوز المساومة عليها وتقديمها كبش فداء على مذبح “الشعارات الوطنية والقومية والدينية” البرّاقة..والليبرالية ليست مرذولة طالما هي هذه المساحات المحمية للمواطن الفرد، والعدالة الاجتماعية مقدمة على جشع الشركات عابرة الجنسيات والقارات، ومصالح حفنة من الفاسدين، لم يكونوا ليبراليين في السياسة أو الثقافة يوماً، بل كانوا خدماً لأكثر النظم فساداً واستبداداً...نحن بحاجة لحوار يتخطى مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، إلى شكل الدولة ومضمونها، شكل النظام ومضمونه، حريات الإفراد والجماعات وحقوقهم، ومن دون ذلك، فلن يختلف شعار “الدولة المدنية –الديمقراطية” عن شعار “الإسلام هو الحل” في ضبابيته وعموميته و”تضليله”، ولنا العبرة فيما حصل في الجزائر قبل عشريتين من السنين، وما يحصل في دول الربيع العربي منذ عامين وحتى يومنا هذا...هل تذكرون صيحة بالحاج:آخر الانتخابات..ألا تذكركم بمقولة:”oneman..onevote..one time”؟.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور