كنت أستمع لأحد قادة الأقباط المصريين المعتصمين أمام مجلس العموم البريطاني احتجاجاً على حكم الإخوان المسلمين، وهو يشرح كيف تغيرت الأحوال الاجتماعية والثقافية والدينية في بلاده منذ أواسط سبعينيات القرن الفائت..المتحدث توقف مطولاً أمام ظاهرة “هجرة العمالة” المصرية لدول الخليج، وعودتهم منها بعد سنوات وعقود من الخضوع لأفكار السلفية ..وكيف انعكس كل هذا التأثير، على اتجاهات التدين في المجتمع المصري، وكيف مهد كل ذلك لإضعاف ثقافة التسامح والعيش المشترك، وأحدث اهتزازات متتالية في النسيج الوطني – الاجتماعي.

لم يذكر المتحدث، ربما لضيق الوقت، كيف أمكن لهذه القراءات المتشددة للدين الإسلامي، أن تغزو حواضر الأمة ومراكزها الأكثر تطوراً،وكيف أن ما حصل في مصر، حصل في جميع الدول العربية والإسلامية بلا استنثاء، وصولاً للجاليات العربية والمسلمة في الغرب.

إنها الحقبة التي طالت واستطالب بأكثر مما ينبغي..فكان أن استحال النفط إلى نعمة ونقمة وسلاحٍ ذي حدين..كان نعمة، بمعنى أنه وفر فرص عمل لملايين المحتاجين، ووفر أموالاً للدعم والاستثمار في الدول العربية..بيد انه كان نقمة، لدوره “الحاسم” في تعميم قراءات متشددة للفكر الديني، ما أفضى لظهور كل هذه الانقسامات الطائفية والمذهبية في العالمين العربي والإسلامي، وجعل حياة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، أكثر صعوبة من أي وقت مضى.

إنها حقبة جاءت متزامنة مع انتصار “الثورة الإسلامية في إيران”، فبدا أن المنطقة دخلت في حرب مذهبية ضروس، لم تضع أوزارها بعد، ولم تبرأ من تداعياتها الخطرة حتى الآن، بل أنها مرشحة للاستمرار والتفاقم، لسنوات وعقود عديدة قادمة.

من منّا في جيل الخمسينات والستينات، يذكر أننا كنا مجتمعا أكثر تسامحاً ومرونة حيال بعضنا البعض..لم نكن “كفرة” ولا “زنادقة”، كنا متدينين بإسلام شامي وسطي معتدل، وشعبي..لم نكن نستمع لفقهاء “الكهوف” و”الظلام”..لم نكن نرى السيدات يخرجن من بيت إلى بيت ومن زقاق إلى زقاق، ينشرن الخرافات والأساطير، ويثرن الرعب في نفوس ربّات البيوت والأطفال..لم نكن نعرف عن ثقافة الكراهية، بل ولم نكن نسمع بسنة وشيعة..كنا متحيزين للأمام علي بن أبي طالب لفرط شهامته ورجولته واستعداده للتضحية..كنا نحب عثمان بن عفان لفرط كرمه وسخائه، وقصص الفاروق عمر، كانت تؤنس وحشة ليالي الشتاء القاسية..كان التدين علاقة بين العبد وربه، وليس مهماً إن كان هذا “العبد” مسيحياً أم مسلما، سنيّاً أم شيعياً أم درزياً.

كل شيء اختلف هذه الأيام، حيث لم يعد كافياً أن تكون مواطناً أو حتى أن تكون مسلماً..عليك أن تتخذ موقفاً حاسماً من “الروافض”، وأن تشمت بقتلاهم الذي يسقطون بالعشرات يومياً من بغداد إلى كويتا..ليس المهم أن تكون مسلماً سنيّاً، فأنت مدان إن لم تكن إخوانياً أو سلفياً..لقد قسموا الجسد الواحد مزقاً وأشلاء، وها هم يمضون في تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ.

نعم، وجه هذه المنطقة، تغير في ثلث القرن الأخير..فقدت هذه المنطقة روحها و”تدينها الخاص”، وتحوّلت بسطوة المال والإعلام و”فرق الدعوة إياها” إلى شيع وقبائل، وباتت صراعات العرب والمسلمين البينية، تطغى على صراعاتهم مع محتلي أراضيهم ومغتصبي حقوقهم..صار الاستنجاد بـ”الناتو” مبرراً..والاستقواء بالإسرائيليين مقبولاً..والتخلي عن أطراف الوطن العربي المقتطعة لصالح جوار إقليمي طامع، أمراً جائز شرعاً، طالما أن العدو الأقرب (الشقيق في الوطن) بات أشد خطراً من العدو الأبعد.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور