تياران لهما مصلحة حقيقية في الترويج لخطر “التصفية” و”الكونفدرالية” و”الوطن البديل”، وتصويره كما لو كان البند الأول على جدول أعمال المجتمع الدولي، والنفخ فيه والمبالغة في جديته وراهنيته، كما لو كان خطراً ماحقاً وداهماً..التيار الأول، إقليمي، ويسعى في ترويج فرضية “أن سقوط النظام السوري هو البوابة التي سيدخل منها هذا الخطر إلى الأردن وفلسطين”، وأن “المؤامرة على سوريا هي التوطئة لمؤامرة التوطين والوطن البديل والكونفدرالية”..أما التيار الثاني، فهو محلي، ويمثل القوى والعناصر (تيار أقلوي على أية حال)، التي إن تعثرت دابة في أمريكا اللاتينية، لقالت أن عثرتها تمهد للمؤامرة على الأردن، ودائماً من بوابة “التوطين” و”الوطن البديل” و”الكونفدرالية”.
والمتتبع عن كثب لمواقف التيار الثاني (المحلي) من الأزمة السورية، نراه مجنداً لدعم النظام السوري، ويعتبر (في العلن) أن دعم صمود هذا النظام وبقائه، هو شرط الإطاحة بالمؤامرة على الأردن..لكن عنصر القلق والتحسب الحقيقي لهذا التيار، إنما يكمن في مكان آخر..وتحديداً في خشيته من تمكين “إخوان سوريا” من الاضطلاع بدور قيادي في “سوريا ما بعد الأسد”، ما سيفضي من وجهة نظرهم إلى استكمال “المربع أو المعين الإخواني في المنطقة”، والممتد من تركيا إلى المغرب، مروراً بمصر وتونس و”نصف ليبيا” و”نصف اليمن” و”نصف فلسطين”..هذا “فأل سيء” إن حصل، يسعى هذا التيار في تحاشي تداعياته، خشية من تمكين “إخوان الأردن” في المقام الأول والأخير، والذي هم من وجهة نظر هذا التيار أيضاً، التعبير السياسي عن الأردنيين من أصول فلسطينية..هنا “مربط فرس” المنظومة السياسية والفكرية لهذا التيار، الذي يقترح علينا حلفاً مع النظام، وتحالفاً مع طهران والمالكي وحزب الله، ويمكن أن يذهب إلى اقتراح “حلف مع الشيطان”، طالما أن الهدف “محلي”، وأضيق من خرم الأبرة.
على أية حال، نحن لا نسقط أخطار “الكونفدرالية” و”الوطن البديل”، فهي ما زالت تعشش في أذهان بعض الإسرائيليين..لكننا لا نميل للهلع والتطير والمبالغة، ونأمل أن يُنظر باستمرار للأمر من زاوية واقعية، ومن نظرة شمولية، بعيدة عن الحسابات الصغيرة والمصالح الأنانية، ويجب، وهذا هو الأهم، انتهاج سياسات ومواقف، من شأنها أن توحد جميع الأردنيين (والفلسطينيين) من أجل مواجهة هذه المؤامرات، طالما أنها تتهدد مصالح الأردن وفلسطين معاً، ولا يجب أن تُنسينا الحسابات الصغيرة، مصدر الخطر والتهديد الأول والحقيقي، فنحشد لخوض المواجهة المشتركة والموحدة له، بدل أن نغرق ونتلهى في نزاعات بينية، لن تستفيد منها سوى مصادر هذه الأخطار والتهديدات.
ليس في كل ما نشهده من حراك على مسار التسوية السياسية ومحاولات إحيائها، أي فرصة للوصول إلى حل، أي حل، حتى بقياسات “الكونفدرالية” و”الوطن البديل”..أما الأسباب الكامنة وراء هذا “اليقين” فمردها اثنان بالأساس..الأول، أن ليس في إسرائيل، لا الآن ولا في المدى المنظور، قيادة يمكن أن تصل إلى حل سياسي يسمح بـ”الكونفدرالية”..هذا خيار “فوق طاقة” تحالف اليمين الديني والقومي في إسرائيل على الاحتمال والقدرة على تقديم “التنازلات”..والثاني، أن المجتمع الفلسطيني، لم يفقد بعد، ولن يفقد طاقته على المقاومة، وإن تحوّلت أشكالها وتبدلت وسائلها، وهو تعلم من خبرته التاريخية المتراكمة، بأن “النكبة” إنما تتجلى في هجرة السكان وتهجيرهم، وليس في ضياع الأرض أساساً، ولهذا يتكشف الشعب الفلسطيني عن طاقة هائلة للصمود والثبات على أرضه من جهة، واستمساكاً متوارثاً جيلاً بعد جيل بحقه في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني وعاصمتها القدس.
ثمة صلة، لا ننكرها، بين ما يجري على الساحة السورية من جهة، ومحاولات “حل” أو “تصفية” القضية الفلسطينية من جهة ثانية، هنا تكمن المؤامرة على سوريا، وهذه واحدة من وجوه الأزمة السورية التي لا يجوز إنكارها، وإن كانت المبالغة فيها، واقتصار ما يجري في سوريا على “المؤامرة”، هي مؤامرة بحد ذاتها، ولكن على تطلعات الشعب السوري للحرية والانعتاق..ما يجري في سوريا، وكما قلنا منذ اليوم الأول للأحداث..مؤامرة تسير جنباً إلى جنب مع الانتفاضة / الثورة، انتفاضة الشعب السوري وثورته في سبيل حريته وكرامته أسوة بحال مختلف الشعوب العربية، التي سئمت سنوات وعقود الركود والفساد والاستبداد والاستنقاع وثالوث التمديد والتجديد والتوريث.
هذه العلاقة المتشابكة، لا يريد أن يراها مؤيدو النظام، الذي يختصرون حركة الشعب السورية، بالمؤامرة القطرية – السعودية – التركية (الحرب الكونية على حد تعبير الإعلام الرسمي السوري)..كما أن تياراً محلياً لا يريد أن يراها كذلك، ولأسباب محلية، يجري التمويه عليها بشعارات طنانة من طراز “مؤامرة الكونفدرالية”..وهذه النظرة الأحادية (بعين واحدة) هي الوجه الآخر، للذين باتوا يرون “الديمقراطية الأنجلو ساكسونية” تسير في ركاب فقهاء الظلام وأجهزة الاستخبارات المستنفرة.
ما يجري على المسار الفلسطيني، ليس سوى عملية ضبط وإدارة محكمتين للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لا بهدف حله، بل احتوائه إلى حين التفرغ لمعالجة أهم ملفين إقليميين: إيران وسوريا..تماماً مثلما حدث بعد غزو الكويت (مؤتمر مدريد الذي ولد على يد القابلة القانونية جيمس بيكر)..ومثلما حصل عشية الحرب على العراق (خريطة الطريق وحل الدولتين ورؤية بوش)..واليوم، يجري الترويج لإحياء عملية السلام (الاقتصادي) وعلى يد قابلة قانونية جديدة هي جون كيري، التي سرعان ما ستحيل نفسها على التقاعد، ما أن يهدأ غبار المعارك في سوريا، وتصل الأزمة مع إيران إلى خواتيمها
وأحسب أن بعضنا بلع “الطُعم” وبدأ يصنف الناس، من مع التوطين ومن ضده، من مع الكونفدرالية من ضدها..بدل أن يعمل على حشد الصفوف والقوى للتصدي لكل الأخطار، بدءاً بتدمير سوريا (الدولة وليس النظام فهما ليسا شيئاً واحداً إلا في عُرف من تحدثنا عنهم)..وانتهاء بإسقاط مرامي الاحتلال الإسرائيلي وأهداف التوسعية الإسرائيلية العدوانية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور