لعل أكثر التقارير الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان حضوراً في الذاكرة العربية الجماعية، كان تقرير ريتشارد غولدستون، الذي تبناه هذا المجلس التابع للأمم المتحدة في جلسة استثنائية يوم 16/10/2009، دان فيها إسرائيل على جرائم الحرب التي ارتكبتها في عدوانها الغاشم على قطاع غزة أوائل ذلك العام.
كان طبيعياً أن يستعيد الكثيرون بيننا بعضاً من حيثيات تقرير غولدستون، وهم يتابعون جلسة استثنائية مماثلة لمجلس حقوق الإنسان ذاته، انعقدت للمرة الثالثة في غضون ثمانية أشهر هي عمر الثورة السورية، لمناقشة الانتهاكات وأعمال القتل التي ترتكبها كتائب الأسد ضد المدنيين السوريين.
وكم بدت الليلة السورية، مع الأسف، تشبه البارحة الإسرائيلية في جنيف السويسرية، لدى التصويت على تقرير أعدته لجنة من ثلاثة خبراء دوليين محترمين، منعوا من دخول الأراضي السورية، تماماً كما منعت إسرائيل أعضاء لجنة غولدستون في حينه، من الدخول إلى الأراضي المحتلة لتقصي الحقائق.
ففي حين صوتت آنذاك خمس وعشرون دولة لصالح تقرير غولدستون وعارضته إحدى عشرة دولة، فيما امتنعت ست دول عن التصويت، صوتت هذه المرة سبع وثلاثون دولة لصالح التقرير الجديد، وعارضته أربع دول، وامتنعت ست فقط من مجموع سبع وأربعين دولة عضو في لجنة حقوق الإنسان الأممية.
وبينما دان التقرير السابق حكومة إسرائيل لارتكابها جرائم حرب في قطاع غزة، دان التقرير الجديد السلطات السورية لانتهاكاتها الجسيمة والمنهجية، ومقارفتها عمليات إعدام، وقيامها بفظاعات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، وهي تهمة أشد درجة من جرائم الحرب، وإن كانت تقل عن جريمة الإبادة الجماعية.
ورغم هول ما اشتمل عليه تقرير غولدستون من مقارفات إسرائيلية بربرية في عدوانها الآثم على قطاع غزة، فقد جاء تقرير اللجنة الثلاثية الأخير أشد هولاً، وأدعى إلى الشعور بالخزي والعار والشنار، كون هذه الارتكابات حدثت على أيدي حماة الديار وليس على أيدي قوات احتلال أجنبي معادية.
ذلك أن إسرائيل التي قتلت الأطفال وهدمت البيوت وروعت المدنيين، وقامت بما تقوم به كل قوة عسكرية غازية، لم تبلغ هذا الدرك من السفالة والانحطاط الذي بلغته كتائب الأسد في حربها المجنونة للاحتفاظ بسلطة باتت مدانة ومنبوذة، وغير قابلة للاستمرار، مهما عاندت وتهربت من مواجهة النهاية الحتمية.
إذ يخبرنا هذا التقرير الذي اعتمد على شهادات أكثر من 220 من الضحايا، وعلى وثائق مصورة وأدلة كافية، أن أجهزة الأسد التي قتلت أكثر من أربعة آلاف إنسان، مارست التعذيب الجنسي على الذكور، واغتصبت الأطفال أمام آبائهم والنساء أمام أزواجهن، وحولت المستشفيات إلى مراكز تعذيب ومسالخ بشرية.
وفي التفاصيل التي غطت نحو ثلاثين صفحة، أوردت لجنة التحقيق الدولية ما لا يستطيع العقل السوي أن يتخيله من إهانات وتعذيب وفجور، وما يعف القلم عن ذكره من جرائم يندى لها الجبين، الأمر الذي يصعب معه بعد اليوم فهم كل دفاع أخرق، أو تعاطف ساذج، ما يزال يجاهر به البعض بين ظهرانينا مع هذا النظام الذي بز في جرائمه عتاة المحتلين.
ومع هذه الدرجة من الفضائح الأخلاقية المشينة حقاً، وهذه المهازل التي تجلل هامة نظام يهدد بزلزلة الشرق الأوسط إذا ما دنت نهايته، ولا يجرؤ على إلقاء حجر على إسرائيل في هضبة الجولان المحتلة، ينبغي القول دون تردد أن من بقي لديه أدنى تأييد لمثل هؤلاء القتلة، عليه أن يتوارى عن الأنظار، ويصمت خجلاً على أقل تقدير.
لقد كان تقرير غولدستون قبل نحو عامين بمثابة ورقة نعي مبكرة لمكانة إسرائيل الدولية ومركزها الأخلاقي كدولة للناجين من الهولوكست، الأمر الذي تآكلت معه سمعتها، وطعن في ديمقراطيتها، وشكك في شرعيتها، وعمّق من عزلتها، وأثار العديد من الأسئلة المصيرية عن قابليتها للعيش في عالم تعلو فيه راية حقوق الإنسان إلى أعلى درجة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي