إذا كان مستشارو الرئيس السوري، على شاكلة النخب الفكرية وقادة الكتائب الإعلامية، ممن يتصدرون شاشات التلفزيون في الآونة الأخيرة، فإن لنا أن نتوقع سلفاً مآلات هذه الأزمة الذاهبة حثيثاً نحو مسارات الصدام الواسع، وأن ندرك سبب عماء البصيرة المطبق، وفهم تلك الخاصيات الهجينة لدى نظام قمعي يفرط في استخدام القوة بلا سقوف، ويمضى بها نحو الدروب المسدودة بعناد وإصرار عجيبين.
إذ برغم كل تلك المراوغات الدبلوماسية المستهلكة، فقد كانت التوقعات مجمعة منذ بداية الأزمة على أن النظام السوري القائم كلياً على هياكل أمنية أحادية الرؤية، نظام غير قابل للإصلاح من تلقاء نفسه، حتى وإن راود ذلك رأس النظام، ورغبت به أوساط محدودة تعي مخاطر الجمود والتحجر، الأمر الذي كان يفسر أسباب ضياع كل تلك الفرص وفترات السماح والاقتراحات التي ظلت تعرضها على دمشق دول صديقة وحلفاء، فضلاً عن الجامعة العربية، طوال الأشهر الطويلة الماضية.
وهكذا، فقد كان الثوار وسائر أطراف المعارضة السورية هم أكثر الأطراف المخاطبة بهذه الأزمة، يقيناً أن كل عروض الإصلاحات التي كان يقدمها النظام ما هي إلا تهرب من إجراء عملية إصلاح حقيقية في ختام عشر سنوات من الوعود الزائفة، وأن كل المهل الزمنية الممنوحة له كانت تستخدم فقط لشراء مزيد من الوقت، اعتماداً على النظرية القائلة أن ما لم تنجح القوة في تحقيقه، سوف يؤدي مزيد من القوة في بلوغه، تماماً على نحو ما تعاقبت عليه فصول هذه الأزمة الدامية على مدى نحو تسعة أشهر ماضية.
وعليه، فقد كان من غير المفاجئ أبداً أن يرفض النظام السوري الحل العربي المقترح لكسر حلقة العنف المنهجي، وأن يضع نفسه في مواجهة جبهة عريضة من الخصوم والأعداء وجهاً لوجه، متكلاً على فائض القوة المجردة لديه، بعد أن أمات بنفسه الوسائل السياسية والدبلوماسية المتاحة، وراح يغذ الخطى نحو الحائط الأخير، جالباً لنفسه ولشعبه سلسلة من العقوبات الاقتصادية والقطيعة السياسية، التي لم يتعرض لها أبداً أي نظام عربي آخر، من جانب الجامعة العربية.
وتدلنا التجارب العديدة السابقة على أنه عندما تنعدم البدائل السياسية لأي أزمة داخلية أو معضلة بينية متفجرة، ينفتح الباب واسعاً أمام كل تدخل خارجي، وتتهيأ الفرص لتسوية الحسابات المؤجلة مع صاحب الأزمة، إن لم نقل إنه يجري استدراجه إلى الزاوية الضيقة، ومن ثم تهيئة الذرائع المواتية لتفعيل الخطط الجاهزة لشتى أشكال التدخل الممكنة، بما في ذلك التدخل العسكري المباشر وغير المباشر، وذلك على نحو ما حدث في ليبيا بالأمس القريب، وما وقع للعراق قبل ذلك بعدة أعوام.
ملخص القول أن النظام السوري المفتقر في تكوينه البنيوي لإمكانية إجراء إصلاحات طوعية ملبية لآمال المنتفضين، ومتساوقة مع إلحاحات الربيع العربي في الحرية والديمقراطية، وجد نفسه في مسار تصادمي مع شعبه، ولاحقاً مع محيطه، فيما لم يجد لديه الوسائل الدبلوماسية المناسبة لتفكيك عرى الأزمة المتفاقمة، وتضييق مساحة الجبهة التي أخذت تستقطب المزيد من الخصوم والمتربصين من حوله، حيث بدت جهوده الدبلوماسية الضائعة طوال الوقت مجرد مراوغات مكشوفة، كما بدا خطابه السياسي أشبه ببضاعة بائرة فقدت مدة صلاحيتها، ولم يعد هناك مشترون لها.
وأحسب أن هذه الأزمة التي يبدو أنها قد خرجت عن السيطرة، قد بدأت تدخل الآن في طور جديد من المواجهات القاسية، وتندفع نحو آفاق مغلقة، بعد أن حسم النظام القمعي المتوحش خياره المميت وذهب نحو مزيد من العزلة، وحسم النظام الرسمي العربي، بالمقابل، تردده الطويل في مواجهة متعددة الأشكال ومفتوحة على كل الاحتمالات، حيث من المرجح أن تكون عقابيلها ذات مضاعفات سلبية أوسع مدى من حدود الرقعة الجغرافية السورية المشتبكة مع الجوار، وتداعياتها أشد وطأة على الداخل والخارج معاً، وذلك بعد أن ماتت السياسة السورية القائمة تاريخياً على التهديدات والإنذارات المبطنة، وتم تمويت تلك الدبلوماسية المبنية كلياً على المراوغة والمكابرة والتهويل على الغير.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي