لو أن الثورة السورية حدثت في عهد ما قبل عصر الصورة وزمن الإنترنت، لكان تقرير بعثة المراقبين العرب فصل المقال في ما جرى ويجري في جمهورية الخوف من وقائع لا تتمكن سوى عين الكاميرا من الإحاطة بها، ولكان الجنرال محمد الدابي، رئيس بعثة المراقبين العرب، هيرادتوس زمانه، تحاكي أقواله سرديات ذلك المؤرخ اليوناني الشهير حول مجريات الأزمنة القديمة.
غير أنه لحسن أقدار هذه الثورة التي اجتازت نقطة اللاعودة بعد مخاض عسير، أنها تزامنت مع عصر انفجار ثورة الاتصالات الحديثة، الأمر الذي أتاح لها كسر قيود الرقابة، ومن ثم العمل تحت الأضواء الساطعة، حيث تحول الثوار إلى مراسلين حربيين، فملؤوا الفضاء الإلكتروني وشاشات التلفزة بسيل هادر من مقاطع الفيديو المنقولة من عين المكان بالصوت والصورة.
وهكذا، فلن ترقى على أي حال صدقية تقرير بعثة المراقبين العرب، بكل حيثياته ومروياته وأحكامه، إلى مستوى صدقية الصورة التي استقرت عميقاً في أذهان الرأي العام عن وحشية النظام الدموي، وعن ارتكاباته المروعة، على مدى عشرة أشهر طافحات بالحقائق التي لا يمكن دحضها، وبالشهادات الشخصية الموجعة لجرحى قاربوا شفير الموت، ومعتقلين قاسوا أهوال أقبية تعذيب رهيب، أو قل مسالخ بشرية مرعبة.
من هنا فإنه يمكن فهم كل هذه الصدمة التي سببها تقرير بعثة المراقبين لدى ملايين السوريين والعرب، حين كاد هذا التقرير في بعض فقراته أن يساوي بين الضحية والجلاد، وأن يوزع مسؤولية استمرار ما أسماه بالعنف، بين النظام المدجج بأسلحة الميدان وأرتال الدبابات، وبين متظاهرين سلميين دفعهم البطش بلا حدود أو سقوف، إلى استخدام الحق الطبيعي المشروع في الدفاع عن النفس والعرض والممتلكات.
وقد يجد المرء بعض الأعذار لهؤلاء المراقبين الأغرار، الذين يؤدون بأقل الأعداد والإمكانات مهمة تنوء بحملها الأمم المتحدة ذات التجارب الغنية في هذا المجال. وقد يتفهم المرء أيضاً صعوبة عمل البعثة تحت الرقابة الأمنية الصارمة لشبيحة النظام، في حقل من المشاهد الملفقة والروايات المضادة والمراوغات المضللة. إلا أن ذلك كله لا يسوغ منح رواية النظام عن العصابات المسلحة أي تغطية سياسية تبرر له الإيغال أكثر فأكثر في سفك دماء الثوار.
على أي حال، فإنه باستثناء هذه النقطة الثمينة التي فاز بها النظام المأزوم، من خلال الحديث عن جماعات مسلحة، فإن تقرير بعثة المراقبين لا يخدم في مبناه، ولا في مغزاه، إدعاءات نظام طردته الجامعة العربية من صفوفها، وأكرهته رغم ذلك على القبول ببعثة مراقبيها، وواصلت ضغوطها عليه، حتى عبر هذا التقرير الذي لم يرَ من الجَمل سوى أذنه، حتى لا نقول إنها هشمت صورته كضلع ذهبي في مثلث الممانعة.
وعليه، فإنه يمكن النظر إلى تقرير بعثة المراقبين، وما تلاه من مواقف أكثر جرأة للجنة الجامعة الوزارية، على أنه فقرة استهلالية مبكرة، أو قل الجزء الأول من الرواية الملحمية الكاملة، المقرر إصدارها بعد نحو عشرة أيام فقط، حيال مجريات أزمة يتم نقل وقائعها أولا بأول على الهواء مباشرة، الأمر الذي يتيح لنا رؤية المشهد الأخير منذ الآن، وقبل أن يكتب الجنرال محمد الدابي السطر الأخير من تقريره النهائي.
إذ يمكن القول بدرجة من الثقة، إن الأزمة المتفاقمة سوف تزداد تعقيداً، وإن الثورة شبت عن الطوق بقفزة مديدة، وإن النظام الذي لا يمتلك سوى حله الأمني العقيم سوف يواصل الغرق في دماء شعبه. ومن ثم، فإن مهمة المراقبين العرب لن تكون، في التحليل الأخير، سوى النافذة التي تم فتحها بصعوبة لتمرير الملف السوري إلى ردهة مجلس الأمن الدولي، وبالتالي فتح الباب واسعاً أمام أشكال لا حصر لها من التدخلات الخارجية المتنوعة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي