لم يكن من قبيل الصدفة أبداً، أنه في الوقت الذي كان فيه علي عبدالله صالح يطالب شعبه بالصفح عنه، ويغادر بلاده بعد لأي شديد وطول مراوغة، كان وزراء الخارجية العرب يعلنون عن خريطة طريق لحل الأزمة السورية، تكاد تماثل سابقتها اليمنية، وتتنكب دروبها المفضية إلى إنهاء عهد آل الأسد، بعد نحو أربعين عاماً من الفساد والاستبداد وتسويق الأكاذيب على الناس.
ولعل أكثر السيناريوهات المتوقعة لاحقاً، أنه مثلما رفض الرئيس السوري، بشار الأسد، مبادرة الجامعة العربية أول الأمر، وماطل كثيراً قبل أن يعلن عن قبولها على مضض، فإن من المقدر وفقاً لهذه التقاليد أن يسارع النظام المعزول عربياً، إلى رفض خريطة الطريق هذه، وأن يقول فيها ما قاله الإمام مالك في شرب الخمر، وألا يفوته وصف المسعى العربي كله على أنه مؤامرة ليس إلا.
غير أنه أياً كانت المكابرة، وكان العناد والإنكار والتشبيح والمقامرة، فإن نقطة كبيرة على آخر السطر من الحكاية الطويلة قد وضعت الآن بقوة، وإن نهاية الدرب لهذا الحكم الشمولي المغلق على نفسه قد باتت واضحة للعيان منذ هذه اللحظة، حتى وإن واصل النظام اللعب بما تبقى له من أوراق متضائلة، وحاول جاهداً تأجيل خاتمته المكتوبة على جبينه منذ أن قارف، في أواسط آذار الماضي، جريمة نزع أظافر أطفال درعا مهد الثورة.
وأحسب أن نقطة الانعطاف التي أسست لما أعقبها من تطورات متراكمة في مسار الأزمة التي تجاوزت شهرها العاشر، قد حدثت عندما وافق النظام المتعالي عن الواقع على دخول بعثة المراقبين العرب، تحت الضغط حيناً ونصائح أصدقائه القلائل حيناً آخر، وفي ظنه أنه قادر على احتواء مبادرة قال إنها صممت أساساً لتقويضه تدريجياً من الداخل، ووضعه على طريق تصادمي مع العرب والترك والكرد ودول الغرب كله.
وكما لم يرد في ذهن أركان النظام الغارق في دماء شعبه أن بعثة المراقبين العرب، على هزالة تكوينها ومحدودية مهماتها، سوف تعجل في مصير حسمه السوريون الأحرار بدمائهم الغزيرة سلفاً وبطولاتهم منقطعة النظير، لم يرد في ذهن أحد من العارفين بعقلية النظام الممانع، وبغروره الفاقع، أنه سوف ينفذ بنداً واحداً من بنود المبادرة العربية التي سبق أن دافعنا عنها بحرارة، انطلاقاً من إدراك مسبق لمنطق هذه الأزمة المستفحلة، ومن فهم متواضع لدينامياتها الداخلية.
ذلك أنه عندما تنعدم الخيارات المتاحة أمام الجميع لحل قليل الكلفة، وتستعصي البدائل الممكنة بيد سائر الأطراف المخاطبة بأزمة عميقة ومعقدة، تنفتح هكذا نافذة صغيرة لتنفيس البخار المحتقن داخل المرجل، وتتهيأ فرصة مواتية على حين غرة لتفادي الانفجار الذي قد تتطاير شظاياه في كل الاتجاهات، تماماً على نحو ما تشكلت عليه المبادرة العربية، وما انطوى عليه مغزى بعثة المراقبين غداة وصولها إلى الديار الشامية، كريح إسناد مناسب لإعادة توجيه دفة السفينة العالقة بين الصخور الناتئة.
وهكذا، فإن من المرجح مع مرور الوقت، أنه بعد أن يتم استيعاب الصدمة التي أحدثتها دعوة الجامعة العربية للأسد بأن يخلي مكانه لنائب له لا يملك من أمره شيئاً، ويتضح لرأس النظام الذي يواصل فقدان شرعيته وسيطرته يوماً بعد آخر، أن نهاية علي عبدالله صالح أقل هولاً من مصير معمر القذافي المرعبة لكل الطغاة، فإنه سوف يستعيد ببطء وتؤدة قدراً متزايداً من رشده، وأن يفاضل بين الخيارين المعروضين أمامه، لصالح أقلهما بؤساً وأكثرهما معقولية.
وليس من شك في أن خصلة العناد والمكابرة سوف تفعل فعلها التقليدي لإرجاء عملية إنزال الأسد عن الشجرة، إلى أجل قد يطول بعض الشيء، إلا أنه بعد هذه الإشارة العربية الحاسمة على اقتراب العربة المتهالكة من الحائط المسدود، ونفاد خزانها من الوقود، فإن من المرجح أن يتقافز الركاب منها رويداً رويداً، وأن تتعالى الأصوات المذعورة من نهاية باتت ترى بالعين المجردة، ومن ثم تتزايد لدى البقية الباقية أفضلية النجاة بالنفس على الطريقة اليمنية، عوضاً عن غذ السير المميت الصاخب هكذا على الدروب الليبية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي