كانت نبرة العقيد معمر القذافي، وهو يطل من باب العزيزية قائلاً إن الملايين تقف إلى جانبه وستقاتل حتى الموت دفاعاً عنه وعن رمزيته كقائد تاريخي، نبرة واثقة إلى حد اليقين، ظلت تلازمه حتى وهو متوارٍ عن الأنظار يدافع عن آخر معقل له، يتراجع ويحث في الوقت ذاته تلك الجماهير الوهمية على الزحف من كل مدينة وشارع ودار ومن كل زنقة، للقضاء على من كانوا في نظر الأخ القائد مجرد جرذان ومتعاطي حبوب الهلوسة وعصابات قذرة.
كان القذافي وهو يمضي أكثر فأكثر في الانقطاع عن الواقع متكئاً على نياشينه وأمواله وأزلامه، ضحية سوء تقدير بالغ للموقف، وموضع تضليل شديد للنفس، ومحط أوهام تكالب على إنتاجها الغرور من جهة أولى، وعماء البصيرة من جهة ثانية، وفوق ذلك نفر من المحيطين به، درجوا على النفخ في صورته وتعظيمه والتهوين من شأن خصومه وأعدائه، وقلب حقائق الواقع أمامه، إلى أن انتهى إلى تلك النهاية الفظيعة جثة عارية مهانة.
وأحسب أن ما صدر عن القذافي في خضم مأساته وملهاته من مبكيات مضحكات، يصدر اليوم عن ابن أخيه في شرق المتوسط، أي عن بشار الأسد، من أضغاث أحلام وترهات وكلام أكثر أناقة حول معارضيه، من مندسين وإرهابيين وعصابات مسلحة، حيث النبع الآسن هو النبع ذاته، والذهنية المفعمة بالثقة الزائدة بالنفس هي ذاتها، ناهيك عن تطابق التقديرات المرتجلة، والحسابات الخاطئة، والمراهنات القاتلة، وفوق ذلك أيضاً تحريضات جوقة مماثلة من المداحين للنظام الممانع ولمعسكر المقاومة.
وهكذا يذهب طاغية دمشق على طريق عمه القذافي خطوة بخطوة، بعينين مفتوحتين وإرادة طوعية تامة، نحو أقدار شخصية متشابهة ومصائر تحاكي بعضها بعضا، لا يرى إلا ما تراه جوقة المنشدين من حوله، ولا يسمع إلا ما يوشوش به المحرضون والمتورطون، والمهولون عليه من عقابيل الانحناء أمام العاصفة، لاسيما وأن لديه ما يكفي من فائض قوة، وعنده حلفاء متوثبون للقتال معه حتى النفس الأخير، وبين يديه معطيات إقليمية ودولية مواتية.
ولعل محاولة الانقضاض العسكري المتأخرة على حمص، في الذكرى السنوية الثلاثين لمجزرة حماة الرهيبة، هي التعبير الأكثر وضوحاً عن استجابة بشار الأسد الطائشة لذلك التحريض الذي ما انفك عن الحث عليه نفر من الذين ربطوا مصيرهم بمصير حكمه، ولم يتوان عن ترداده قوم من "السحيجة" أغلبهم من اللبنانيين من ذوي الأفواه الكبيرة، أولئك الذين قالوا على الفضائية السورية ذات سهرة مملة، أن أول صاروخ قد يطلق على دمشق سنرد عليه بألف صاروخ على أنقرة، ومثلها على الرياض، وضعفها الدوحة (كذا).
واليوم، حين يرفع النظام المأزوم شهية القتل لديه، من وجبة يومية قوامها عشرات الضحايا، إلى وجبة قوامها المئات، ويوغل أكثر فأكثر في دماء شعبه على مرأى من عدسات الهواتف الجوالة، ويعيد في حمص أمام أعين العالم كله مقارفة مجزرة حماة جديدة موثقة هذه المرة بالصوت والصورة، ويخوض معركة بات ميدانها الأهم شاشات التلفزيون والفضاء الإلكتروني الواسع، فإنه بذلك يجتاز نقطة تحول نوعية في مسار الأزمة، يصيب نفسه في مقتل لا شفاء منه، ويعجل من أجله، ويسد على ذاته دروب النجاة من مصائر الطغاة الحتمية.
وقد لا يمر وقت طويل حتى تنجلي مغامرة حمص، التي كتب النظام المتوحش أول فصل طويل من فصولها الدامية في ذكرى مجزرة حماة ـ يا للمفارقة ـ عن عملية بدء عد عكسي للنهاية المرئية سلفاً، أو قل لخاتمة هذه الرواية المأساوية، حتى وإن كانت عملية العد بطيئة وذات كلفة عالية، فهكذا تكون النهايات الفجائعية دائماً، على بعد خطوة واحدة، وأحياناً على قيد شعرة صغيرة، من وقوع مجزرة مروعة، تحدث الفارق النوعي في المسار كله، تقلب المشهد الذي كاد أن يكون مقبولاً، وتغرق القاتل في بركة دماء لزجة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي