ثمة من يسعى للعب على وتر خلاف أردني – فلسطيني «مزعوم» حول مهمة جون كيري ومآلاتها ... هم يختلقون خلافاً استراتيجياً، ويتحدثون عن «خيانة فلسطينية ثانية» للأردن، باعتبار أن «أوسلو 1»، كانت «الخيانة الفلسطينية الأولى للأردن» ... بل وتذهب بعض التعليقات و»التسريبات» حد التلميح، بأن الأردن هو من يتصدى للتنازلات الفلسطينية «المجانيّة» التي يقدمها المفاوض الفلسطيني لإسرائيل عبر الوسيط الأمريكي.
يفترض هؤلاء أن الأردن، يقف على مسافة ألف سنة ضوئية مما يجري في رام الله والقدس وواشنطن ... هؤلاء جهلة ولا يعرفون، فالأردن ليس كوريا الشمالية، ولديه من العلاقات والاتصالات والحضور، ما يكفي لتمكينه من متابعة كل شاردة وواردة، في متن المفاوضات وعلى هامشها ... ثم يخترعون حكاية «القناة السرية» بين عباس ونتنياهو، وهذا أمر مضحك للغاية، فما لم يستطع الرئيس الفلسطيني انتزاعه من نتنياهو تحت الضغط الأمريكي، لن يستطيع انتزاعه منه من دون هذا الضغط، وفي ظني أن الحالة الفلسطينية – الإسرائيلية اليوم، تخطت المرحلة الممتدة من مدريد إلى أوسلو، وبفرض وجود قناة ثانية، فلا أحسب أنها أكثر جدوى وفاعلية من قناة كيري «المتدفقة» بالأفكار والمبادرات والمشاريع.
ويفترض هؤلاء أن القيادة الفلسطينية قد رفعت الراية البيضاء وقبلت بمشروع كيري على عجره وبجره، مثل هذا الاحتمال، وإن كنّا لا نسقطه تماماً، إلا أننا لا نمتلك المعطيات الدالّة عليه بعد، برغم القلق والمخاوف التي تنتاب كثيرين، ونحن منهم ... بيد أن المراقب الحصيف لا بد ان يتساءل: هل يملك الجانب الفلسطيني الهبوط بمواقفه عن سقف المطالب والتوقعات العربية (الرسمية) بعامة، والأردنية بخاصة؟ ... وهل جال جون كيري ويجول، على عدد من العواصم ووزراء الخارجية العرب، لإقناعهم بالضغط على الرئيس عباس لوقف «تهافته» وسيل تنازلاته، أملا للتخفيف من شروطه والتخلي عن بعض مطالبه في الحل النهائي؟
قليلٌ من الإنصاف، يُظهر من دون شك، أن هذا كل هذه المقارنات والمقاربات ليست في محلها ... وأن الأردن والسلطة، يسيران على الخطوط ذاتها، والتي لا تخرج عن إطار المرجعيات المعروفة لعملية السلام، والمبادئ والمعايير التي أمكن التوصل إليها في سياقها.
من حقنا جميعاً أن نقلق مما يحمله كيري في جعبته، وفي ظني أن الرجل لا يحمل أية «بشارة» من أي نوع، لا للأردن ولا للفلسطينيين، ولكن لماذا يجري تصوير الموقف الفلسطيني على أنه شديد التهافت والموقف الأردني على أنه شديد التصلب في مواجهة مهمة كيري؟ ... هل لأن الأردن استعمل رسمياً لأول مرة ربما، عبارة «على أن تتم مراعاة المصالح الأردنية» بعد الجملة المتكررة المعروفة عن «دعم الأردن لعملية السلام وخيار المفاوضات»، وهل بمقدور أي مسؤول أردني أن يقول شيئاً مغايراً، وهل يتصرف المسؤول الأردن، بمعزل عن «المزاج العام» من جهة وحسابات الدولة ومصالحها من جهة ثانية.
عندما ذهب الفلسطينيون إلى المفاوضات، لم يفعلوا ذلك من وراء ظهر الأردن أو العرب جميعاً ... الأردن ومعظم الدول العربية وافقت، بل ودفعت باتجاه استئناف المفاوضات، وحتى من دون شروط مسبقة ... وقبلها بأكثر من عام، وضع الأردن على عاتقة مهمة تيسير استئناف المفاوضات بعد فترة انقطاع طويلة، وكان له ما تعهد به، وعقدت جولات تفاوض استكشافية في عمان، نزولاً عند المبادرة الأردنية في هذا المجال ... ومنذ استئناف المفاوضات قبل خمسة أشهر، ظلت قنوات الاتصال الأردنية مفتوحة مع مختلف الأطراف، وبالذات مع الجانب الفلسطيني، وعلى أرفع مستوى، وبصورة شبه منتظمة ودورية، فلماذا إشاعة مثل هذه المناخات في هذا التوقيت الحساس؟
مشكلة المفاوضات ومأزقها يقعان على المقلب الآخر من المعادلة، على الجانب الإسرائيلي ... وعلينا جميعا أن نعمل لتصليب الموقف التفاوضي الفلسطيني، ومنع الانزلاق في مهاوي كيري ومهمته المفخخة بالألغام ... وهذا يتطلب دعوة عمان ورام الله معاً للبحث عن مخارج وحلول وخيارات أخرى، من بينها إلغاء الوكالة الحصرية لواشنطن بإدارة هذا الملف، فمثلما كان لإيران «جنيفها» ولسوريا «جنيفها»، ينبغي أن يكون للفلسطينيين «جنيفهم» كذلك، وهذا أمرٌ أجدى وأفضل من الإغراق في البحث عن الخلافات بين عمان ورام الله، واختلاقها إن لزم الأمر، والنفخ في نيرانها في كل الحالات.
للبعض الذي يبحث عن «بطولات» لتسجيلها على حساب الجانب الفلسطيني، نقول: البطولة ليست هنا، البطولة في التصدي للتعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي، وقبل ذلك وبعده، فإن عمان ورام الله، انطلقتا من خط البداية ذاته، وهما تسيران جنباً إلى جنب مع بعضها البعض، والأرجح أنهما ستصلان إلى خط النهاية ذاته، فإما الذهاب معاً للقبول بمهمة كيري، وإما الذهاب معاً أيضاً في رفضها وعدم الخضوع لإملاءاتها.
وإن كان البعض يعتقد، وهو ربما يكون محقاً فيما اعتقد، بأننا نقترب من «صفقة منقوصة» يأتي بها كيري وسيفرضها علينا، فليس معنى ذلك أن نبدأ التلاوم منذ الآن، وأن نتقاذف كرات الاتهام بين بعضنا البعض ... ذلك أن «رقصة» كيري إن قُدّر لها أن تبلغ خواتيمها، فهي ليست كـ «التانغو» بحاجة لاثنين فقط، إنها أقرب إلى «الدبكة» التي تحتاج لعدد وافر من «الدبيكة»، وأي نشاز أو خروج عن هذا «الانتظام» يعني فشل الراقصين وفوضى «الحلبة».
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور