من بين عدد لا حصر له من اللاعبين الإقليميين والدوليين على خشبة مسرح الأزمة السورية المتفاقمة، نجحت روسيا في وقت مبكر من عمر هذه الأزمة في تمييز نفسها عن الآخرين بدور قيادي مختلف، وراحت بدبلوماسيتها الهجومية، ومناكفاتها السياسية للغرب، تقتطع الحصة الراجحة لها من كعكة أي حل توافقي منتظر، إلى الحد الذي بدت معه موسكو كبوابة عبور إجبارية لكل مقاربة تفاوضية تبادر بها الأطراف والعواصم المخاطبة بهذه الأزمة.
إذ بفضل حق النقض الذي استخدمته روسيا في مجلس الأمن الدولي، والحماية التي قدمتها موسكو للنظام المعزول عربياً ودولياً، انتزع الكرملين لنفسه دوراً لا يجارى في خضم البحث عن تسوية مرضية لسائر الأطراف المعنية، وصار ورثة الاتحاد السوفيتي السابق أصحاب الكلمة المسموعة في دمشق، التي استمدت من المظلة الروسية شعوراً أعلى من الثقة بالنفس، وقدرة أكبر على المناورة أمام الضغوطات، بل والسعي إلى استعادة زمام المبادرة على الأرض.
كان فشل مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار لا يقدم كثيراً ولا يؤخر في مجرى التطورات الميدانية، بمثابة هدية مجانية روسية لمجتمع دولي مفتقر إلى الدافعية الكافية للتدخل في أزمة معقدة، إن لم نقل طوق نجاة قانونيا ألقت به روسيا إلى أميركا والدول الأوروبية المتخوفة أساساً من التورط في مواجهة ليست مضمونة العواقب، وهو ما وفر لكل المترددين والمتحسبين وفاقدي الشهية الذرائع المناسبة والمسوغات اللازمة للنأي بأنفسهم عن استلهام تجربتهم الليبية.
وليس من شك في أن توجه كوفي أنان، إلى روسيا قبل أن تطأ قدماه أياً من العواصم الغربية النافذة، توجه ينطوي على إشارة ذات دلالة مهمة، ألا وهي أن موسكو التي بنت مساراً سياسياً أنجح مما بنته دول "أصدقاء سورية" باتت اليوم العاصمة المؤهلة أكثر من غيرها للقيام بدور مركزي في مسار الأزمة، بدون أن يعني ذلك أن العاصمة الروسية هي بالضرورة الموضوعية صاحبة الكلمة الأخيرة في أزمة تفاقمت بشدة، وصارت نهباً لتدخلات خارجية عديدة ومتغيرات محلية غدت خارج نطاق التحكم والسيطرة.
إذ مع دخول أطراف إقليمية مهمة على خط هذه الأزمة، وبروز لاعبين محليين جدد على الساحة الداخلية، بمن في ذلك الجيش الحر متزايد الحضور والفاعلية يوماً بعد يوم، وجماعات ملتبسة الدوافع من المقاومة الوطنية والدينية، ناهيك عن التآكل التدريجي البطيء في بنية نظام يحتضر داخل غرفة العناية الإيرانية، فإن من المرجح تبعاً لذلك كله أن تجد روسيا نفسها في وقت غير بعيد أمام مأزق يفوق قدرتها على القيام بدور العراب، لحل أزمة تزداد استعصاء وتشتد انغلاقاً على متحاربين بلغوا نقطة اللاعودة.
وقد لا يطول الوقت كثيراً حتى تجد روسيا أن نجاحها التكتيكي الباهر كان أقرب ما يكون إلى شجرة كبيرة لكنها غير مثمرة، وأن تغطيتها السياسية لنظام غير قابل للإصلاح من داخله غدت باهظة الكلفة، حتى لا نقول عبئاً لا يمكن دوام احتماله، وذلك عندما تتكشف للرأي العام المزيد من المجازر، التي لا يمكن تبريرها بكل المرافعات الأخلاقية لدولة كبرى مثل روسيا تحاول بصعوبة الدفاع عن سجلها في حقوق الإنسان وتسويق نفسها كبلد ديمقراطي.
في واقع الأمر، منعت روسيا تدخلاً عسكرياً لم يكن موجوداً ولم يطالب به سوى بعض نشطاء الثورة، وأطالت الحبل كثيراً لنظام مراوغ لا يستطيع تقديم تنازل ذي مغزى حقيقي لشعبه، وجازفت طويلاً في استعداء السوريين، وهي تنافح عن حاكم مستبد لا مستقبل له مطلقاً. وهكذا عندما ينجلي الأمر، ولو بعد حين، عن وضع لا يمكن فيه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، تكون روسيا قد بلغت نهاية مسارها المغلق، وخسرت دورها كلاعب متميز، بل وخسرت مكانتها ومصالحها بعيدة المدى مع شعب باق، لعيون حاكم زائل.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي