كنت أظن، أن درجة الحرارة العالية في صيف العراق القائظ، هي من يدفع الأخوة العراقيين إلى توقيت انقلاباتهم العسكرية وثوراتهم الشعبية، ولاحقاً اجتياحاتهم للكويت، الجارة الصغيرة للبلد الكبير، في شهري تموز وآب ... لكننا نكتشف اليوم، أن تعاقب الفصول له أثر علينا نحن في الأردن كذلك ... بعض الأصدقاء اتهمني باستحداث بدعة “التحليل المناخي” للتطورات الإقليمية، نكتشف اليوم، أنها ليست بدعة، واستتباعاً، ليست ضلالة ولا نحن في النار بإذن الله.

هي الفئة ذاتها كما قال جلالته أمس الأول في حديث أمام قادة السلطات الثلاث ... تؤْثِر “البيات/ الكمون الشتوي”، لتطلع علينا في “الربيع” لتبث سموم الفتنة، لكأنه كُتِب على الأردنيين، ألا يستمتعوا بـ “ربيعاتهم” القصيرة على أية حال، فلا مجال لتنشق روائح الزهور العطرية والبرية، ولا فسحة من الوقت لممارسة الاسترخاء فوق البساط النباتي الأخضر الذي سرعان ما سيواجه الاصفرار والذبلان.

وما أن ندخل فصل الصيف القائظ، مصحوباً في الغالب بأزمة مياه وزحمة سير خانقة، حتى تكون قلوب الأردنيين قد بلغت الحناجر، لا بسبب الدعاء إلى الله والتقرب منه فحسب، بل ضيقاً بما يجبرون على سماعه من صحيات مذعورة وفزّاعات، يُراد بها إخافة الناس، وإشاعة مناخات اليأس من المستقبل والحاضر والماضي، بل واليأس من الوجود نفسه ... فيتدخل الملك بعد ذلك، مذكراً بأن “الأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين”، كان الأمر كذلك في الماضي، وسيظل كذلك في الحاضر والمستقبل ... تهدأ النفوس قليلاً ... تنكفئ أصوات الفتنة ويرجع أصحابها خطوة إلى الوراء، بانتظار دورة “بيات شتوي” جديدة، وربيع مثقل بالفتن والتشاؤم، بخلاف طبيعته الباعثة على الأمل والتفاؤل.

عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أنه قال: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ما هذا”. فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “دعوها فإنها منتنة”.

نقول منتنة، لأن بعض الأصوات التي تتخذ مما يواجه أهل فلسطين من ضغوطات للقبول بما لا يخدم حقوقهم ومصالحهم، وسيلة لإذكاء النزاعات وصراع الهويات المفتعل، عندنا هنا في الأردن ... نقول ذلك، لأن كثيرا من الكلام الحق بصدد مهمة كيري يُراد به باطل ... وهل ثمة من سانحة أفضل لخصوم الإصلاح السياسي والاقتصادي، من التذرع بمهمة كيري لإطلاق النار على أي جهد، أو تكفير، مجرد تفكير، بإجراء إصلاحات سياسية حقيقية ... هذه لعبة عرفناه طوال سنوات طوال، وهي تتكرر مستخدمة “الذرائع” ذاتها، أو بالأحرى “عدة الشغل” ذاتها.

من حق الأردنيين أن يقلقوا مما يقال ويتسرب عن مهمة كيري، نحن أيضاً قلقون ومتحسبون، بل ونميل للاعتقاد الجازم بأن الرجل لا يحمل في جعبته، ما يستجيب للحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين وأشواقهم للحرية والاستقلال، والمؤكد أن أفكار كيري كما عرفنا عنها ووصلنا منها، لا تستجيب لمصالح الدولة الأردنية، كما حددتها مؤسسات الدولة ذاته، رسمياً على الأقل وفي غير مناسبة.

ولكنه كيري هو من جاء بهذا الأفكار، لا الأردنيين أو بعضهم، ولا الفلسطينيين غرب النهر أو شرقيه ... وهو بهذا كما يقول الرئيس عباس وفريقه المفاوض، يتساوق مع مواقف الإسرائيليين وحساباتهم الأمنية المفرطة في عدوانيتها وتوسعيتها ... فلماذا إذن، نجعل من أفكار الوزير الأمريكي، بذرةً للشقاق والانقسام، نزرعها في تربتنا المخصّبة لقبول الشائعات والأراجيف؟ ... لماذا لا تكون أولى دعواتنا وآخرها، أن توحدوا ولا تفرقوا فتذهب ريحكم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين؟ ... لماذا لا تكون المخاوف والتحسبات، مدعاة للقول بتعزيز الوحدة الوطنية وتصليب الجبهة الداخلية وتعميق العلاقات الأردنية – الفلسطينية، فنحن جميعاً في قارب واحد، وإذا كان هناك من “خطر” يتربص بنا مع مشروع كيري أو غيره، فلماذا نخطئ دائماً في “التنشين”؟ ... لماذا “ننشن” على الهدف الخطأ؟

في الحديث عن مهمة كيري، قلنا ونقول، ثمة دواعي ومباعث للقلق لا تخطئها العين المجردة ... لكن “مهمة كيري” وفرت فرصة لقوى عديدة لتحقيق أغراض أخرى ... جبهة مناهضة الإصلاح السياسي (قوى الشد العكسي) وجدت ضالتها عند كيري ... قوى ثانية تراجع حضورها في الأشهر الأخيرة بسبب التطورات في الإقليم من حولنا، تسعى في استعادة بعضٍ من حضورها ... وقوى ثالثة “غابت عن السمع” بعد عامين من الحضور الكثيف في الإعلام والساحات والشوارع، وجدت الفرصة المواتية لتجديد دورها، وهذا أمر مفهوم ومقبول في العمل السياسي عموماً، على ألا يتورط أصحابه والقائمون عليه، في مشاريع زرع بذور “الفتنة” والانقسام بين الأردنيين، وهنا بيت القصيد... دعوها فإنها منتنة.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور