قد لا يختلف اثنان على أن هذه المرحلة التي نمر بها، محلياً وإقليمياً، مرحلة ذات طبيعة تتسم بالسيولة السياسية، أي أنها حالة لا قوام لها، وأنها مفتوحة على سائر الاحتمالات الممكنة مع ميل أشد إلى المناحي السلبية منها، وفوق ذلك هي مرحلة يسودها عدم اليقين، يديرها أولو الشأن يوماً بيوم، وفق منطق رد الفعل أكثر من الفعل نفسه، وبدون رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
ولعل أول ما يمكن استنتاجه وفق هذه المقاربة الأولية، أن هذه المرحلة الرخوة غير قابلة للاستمرار على هذا النحو الذي لا يستطيع فيه طرف قادر بمفرده على الإمساك فيها بزمام المبادرة وتوجيه دفتها نحو غايات مستهدفة وقابلة للتحقق في المدى المنظور، الأمر الذي فاقم وما يزال يفاقم من حالة الترقب والانتظار، والمراهنة على مجهول متغيرات مفاجئة قد تحدث في أي وقت.
وإذا كان مثل هذا التوصيف صحيحاً بالحد الأدنى، فإنه يمكن لنا إذاً فهم مسوغات كل هذا التذمر، وكل موجبات هذا الاحتدام الاجتماعي الكامن تحت الرماد كأنه الجمر، ناهيك عن التهور والمبالغة من جانب القوى والجماعات والأفراد، وارتفاع حرارة السجال حول مختلف الشؤون العامة، والانهماك في تبادل التهم وتقاذف كرة المسؤولية بين الجميع نحو الجميع، وتغليب المصالح الذاتية والفئوية على الصالح الوطني العام.
لذلك فقد كان من الطبيعي أن تتجه الأمور في معظمها نحو مزيد من الاستعصاء، وأن يزداد انغلاق الآفاق المرئية في المدى القريب، وأن تقل البدائل والخيارات المتاحة أمام الحكومات والمؤسسات والأسر والأفراد، وأن تشتد حدة المنافسات على كل صغيرة وكبيرة من موضوعات الشأن العام، وذلك بفعل الافتقار إلى رؤية استشرافية وبرنامج وطني قادر على تجاوز مخاضات هذه المرحلة الملتبسة، والإقلاع بالسفينة إلى مناطق الأمان في أعالي البحار.
وليس من شك في أن معظم مظاهر هذه المرحلة وسائر أعراضها الجانبية، هي من بنات ما اصطلحنا على تسميته بالربيع العربي، الذي من المرجح له أن يطول أكثر، وأن تتنوع مخاضاته وتتعدد مخرجاته بين هذا البلد العربي أو ذاك، حيث زاد الإلحاح على الإصلاح والتغيير، وتعاظم إحساس الأفراد والجماعات بأنفسها، وطفقت تطالب بحقها المسلوب في المشاركة وصنع القرار، خصوصاً بعد أن تغير مفهوم الدولة المطلقة في مخاضات هذا الربيع، وتجاسر الناس عليها أكثر مما تجاسروا عليها في أي وقت مضى.
ومما يتراءى لنا رؤية العين المجردة، ونكاد نلمسه بأصابع اليد العشرة، أن الاستقطابات الداخلية في ازدياد، وأن الاتجاهات الدينية غدت في صدارة المشهد هنا وهناك، وأن قوى اجتماعية جديدة، ذات نفس اجتماعي/ سياسي مركب، حققت مزيداً من الحضور وراحت تراكم عليه مع مرور مزيد من الوقت، فيما البنى الحزبية القديمة وطرائقها الكلاسيكية في التعامل مع المتغيرات، أخذت تذوي شيئاً فشيئاً، حتى لا نقول إنها تشارف على الخواء التدريجي البطيء.
ومع الإمساك بصعوبة الاسترسال بعيداً في الاستنتاج عما تخلّق في رحم هذه المرحلة التأسيسية، وعما تعد به تفاعلاتها من مخرجات تتفاوت أهميتها بتفاوت المكان والزمان، فإنه يمكن القول بحذر قليل، إن عاصفة التغيير لم يمر منها سوى المقدمات الأولى للريح، وإن المصدات الكلاسيكية المتهالكة ليس لها قابلية الصمود في المدى البعيد، الأمر الذي ندعو معه إلى ضرورة انحناء الحرس القديم في وجه الأعاصير، وخفض سرعة المتعجلين بالمقابل على قطف الثمار قبل أن تستوي على الأغصان.
بكلام آخر، هذه دعوة مسكونة بالنية الطيبة والإرادة الحسنة، إلى تجنب خسائر العوائد المحتملة لهذا الربيع الواعد بربح جزيل، ودرء مضاعفاته السلبية المحتملة، وهي أكثر من الهم على القلب في هذه الآونة الانتقالية العابرة، والنأي بالنفس عن المغامرة والارتجال والتجريب، ونبذ التكتيكات قصيرة المدى، والمجازفات التي تثقل على كواهل الجميع، والكف عن افتعال الخصوم والأعداء الوهميين، والانزلاق من ثمة نحو مهاوي الانقسام، وإثارة النعرات على خلفيات مصلحية ضيقة، لا يرى أصحابها أبعد من أنوفهم الطوال.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي