ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي أحيي فيها ذكرى الخامس من حزيران بمفردات من خارج لغة العويل والبكائيات على ما حدث في مثل هذا اليوم قبل خمسة وأربعين عاماً. وقد تكون المصادفة هي التي منحتني فرصة استبدال مشاعر الألم والحزن على ما جرى لنا في حرب الأيام الستة، بمشاعر الاعتزاز والحس بالجدارة، رغم فيض الذكريات المبرحة التي عادة ما تداهمنا في هذه المناسبة.
فقبل نحو ثلاثة أسابيع، احتفلت إسرائيل بيوم احتلال الضفة الغربية وضم القدس حسب التقويم العبري، حيث عقدت حكومة بنيامين نتنياهو جلسة خاصة لها داخل موقع اسمه تل الذخيرة في حي الشيخ جراح بالمدينة المقدسة، قررت فيه إنشاء مجمعات سكنية لصالح أفراد من قوات الأمن، ورصدت لها نحو مئة مليون دولار يخصص جزء منها للحفاظ على تل الذخيرة، كي يتحول إلى موقع تراثي.
والحق أنني لم أكن قد سمعت بتل الذخيرة من قبل، الأمر الذي حدا بي إلى الاستفسار من أحد كبار أبناء المدينة القادم لتوه من بيت المقدس، ليس عن ذلك الاحتفال الإسرائيلي فحسب، وإنما عن ماهية المكان الذي جدد فيه نتنياهو التزامه بجعل القدس كمدينة للتوراة وعاصمة أبدية للدولة العبرية. فأوضح لي ذلك المقدسي العتيق حقائق أذهلتني عما يتصل بالموقع.
فقد عرفت أن تل الذخيرة هي تسمية عبرية لموقع كانت ترابط فيه وحدة من الجيش الأردني، قوامها نحو مئة جندي وضابط، قاتلوا دفاعا عن معسكرهم وعن مدينة القدس، دفاعا أسطوريا قل نظيره لثلاثة أيام من تلك الحرب، التي انتهت باستشهاد كامل أفراد الوحدة العسكرية الباسلة في مرابضهم، ولم ينج منهم سوى واحد أو اثنين على أكثر تقدير، وذلك بعد أن نفدت ذخائرهم وانقطعت عنهم الإمدادات.
أول الأمر لمت نفسي على الجهل بهذه الواقعة الحربية المثيرة للفخر، وتساءلت صامتاً: كيف لهذه الصفحة المجيدة أن تطوى من الذاكرة الجماعية هكذا دون اكتراث؟ ولماذا لم يتم تدوينها في سجل الشرف العسكري الأردني؟
تلمست العذر لكل المخاطبين بهذه الصفحة المشرقة، لتجاهلهم استذكار هذه الموقعة العظيمة، وذلك تحت وطأة الشعور الثقيل بفداحة الهزيمة، وذل الهوان الوطني، وانكسار الكبرياء القومي، جراء ما حدث للجيوش والأنظمة والقادة العرب في ذلك اليوم الكسيف. إلا أن مرور كل هذا الوقت دون حدوث أي التفاتة لما جرى في ما صار يعرف باسم تل الذخيرة، بدا لي أمرا غير مفهوم وغير مقبول.
وكي لا يكون حكمي هذا ظالماً للجميع، فقد عدت إلى ما يمكن أن يطلق عليه "الأرشيف الوطني"، فلم أجد غير تقرير واحد نشرته وكالة الأنباء الأردنية (بترا) العام 2008، تحدثت فيه عن تل الذخيرة هذا، وأوردت فيه شهادات لضباط إسرائيليين حول مجريات المعركة، إلى جانب شهادة محارب أردني واحد، هي عبارة عن جملة وصفية واحدة لا تفي بالغرض، ولا تتضمن سوى أقل القليل عن معركة البطولة والشهادة النادرة في تاريخ الأمم والشعوب.
إذ لو أن المعركة التي قاتل فيها جميع أفراد القوة حتى الموت كانت تخص الجيش الإسرائيلي، لجعلوا منها معركة خالدة في الذاكرة اليهودية، على غرار معركة "متسادا"، التي يقف فيها المتخرجون من دوراتهم العسكرية، ويقسمون على أن ما وقع في تلك الخرائب قبل أكثر من ألفي سنة لن يكرر مرة أخرى. فلماذا إذن، ونحن لدينا مسيس الحاجة إلى تحصين الذاكرة الوطنية والقومية بكل ما يبعث على الفخر، نغمط حقنا في الزهو بتلك الملحمة التي لا تقل عن معركة الكرامة مثلا؟
وعليه، فإن لنا في يوم الخامس من حزيران أن نستعيد تل الذخيرة من قعر الذاكرة العامة، وأن نعيد كتابة تلك الصفحة النادرة بما يليق بها، وبما يمليه الواجب من تكريم للأبطال وشرف البطولة، لا أن نكتفي بتقرير صحفي واحد، أو فقرة من كتاب تاريخي واحد لم تتسع صفحاته سوى لجملة دونها المؤرخ الراحل سليمان الموسى عن تلك الموقعة. وهي مسؤولية يشترك في تحمل نصابها الكامل الإعلاميون والروائيون والباحثون، فضلا عن قيادة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي