فوق سلطة القانون التي يخضع لها الكاتب، أسوة بغيره من المواطنين الراشدين في المجتمع، يخضع هذا الكائن المرهف كذلك لسلطة ضميرية خاصة به، يتقبل أحكامها بدون إملاء، ويطيع أمرها من تلقاء نفسه؛ يصغي إليها بانتباه، ويستجيب لنواهيها عند أول وخزة داخلية طفيفة، ولا يخرج على قانونها غير المكتوب أبداً. ولم لا وهو الذي يرى في ذاته ممثلاً شرعياً، وناطقاً وحيداً باسم هذا الملكوت السيد الحر، المستقل عن غيره من العوالم الخارجية؟
فمثل هذه السلطة الضميرية التي تضاهي سلطة القاضي التقديرية منزلة، تعتبر لدى الكاتب القمين بهذه التسمية، السلطة الأعلى بين منظومة السلطات التي يقع –ترغيباً وترهيباً– تحت مظلة قيودها. وهي بصفتها هذه تقوم مقام سيدته التي يصدع لجور صولجانها بلا مناقشة. وأكثر من ذلك، فإن لكل واحد من المتبتلين في محراب الكلمة صورة لذاته عن ذاته في مرآته الفردية، كحارس أمين للموقف النقدي، وكصاحب رسالة تنويرية عامة، عليه أن يؤديها بجرأة أدبية، وأن يدافع عنها ببلاغة، وأن يتحمل أوزارها كاملة غير منقوصة.
ومن الطبيعي أن يختلف الكتاب في مقارباتهم للتطورات الجارية من حولهم، باختلاف خلفياتهم المعرفية، ورؤاهم السياسية، ومثلهم العليا، وفهمهم للمسائل الإشكالية المطروحة عليهم، الأمر الذي يشكل في نهاية المطاف لوحة فسيفسائية من الآراء والتقويمات والمواقف المعبرة عن المزاج العام في مرحلة معينة، ويخلق في الوقت ذاته التنوع المحمود، المعبر عن مفهوم التعددية الفكرية المعمول به في المجتمعات الديمقراطية.
وبالانتقال من فضاء التجريد والمطلقات النظرية إلى واقع التطبيق العملي لمفردات السلطة الضميرية للكاتب، نجد فيضاً من التعارضات الفكرية المفهومة، والاجتهادات المختلفة، والمعالجات المتباينة بتباين الدوافع والأفكار والتفضيلات الخاصة بكل صاحب كلمة على حدة، الأمر الذي يثري الحياة السياسية والثقافية، ويقدم للمتلقين طيفاً واسعاً من البدائل والاختيارات والانحيازات، في إطار ما بات يعرف باسم صناعة الرأي العام في الدولة الحديثة.
وهكذا، تبدو صفحة الرأي في اليوميات، بل وفي اليومية الواحدة، أشبه ما تكون بحديقة غنّاء ذات أزهار متنوعة، تنبت على سياجها في بعض الأحيان أعشاب ضارة، أو قل أفكاراً شاذة، وآراء صادمة للضمير العام؛ كأن يخرج عليك أحدهم برثاء استفزازي لكبار الشبيحة القتلة من خلية الأزمة السورية، أو يدعو آخر، ويا للعار، إلى إغلاق الحدود في وجوه اللاجئين السوريين الفارين إلى حماك من طاحونة الموت المتنقلة، وذلك بذرائع واهية وأنفاس تحريضية كريهة.
قد لا يتعجب المتلقي من موقف كاتب يهجس إلى اليوم بمحور الممانعة، وقد لا يعجبه أيضاً تمترس البعض وراء نظرية المؤامرة، ولا عناد القلّة القليلة في تمسكهم بأفكارهم المسبقة، إلا أن ذلك كله لا يخرج هؤلاء القوميين العتاة والعقائديين من دائرة الرأي والرأي الآخر، ولا يوقع عليهم جريرة مفارقة الضمير الجمعي للأكثرية الكاثرة. فهم في التحليل الأخير أصحاب موقف مخالف، ورؤية مفتوحة للسجال حتى النهاية، حتى وإن كانوا في الجانب الخطأ من التاريخ، وكانوا لا يعبأون كثيراً لذبح الأطفال وموت المعتقلين تحت التعذيب، وعويل الأمهات الطيبات.
أما الذين تسكنهم دافعية مشوهة، وعندهم ضمير ميت، وفقر وجداني، وخواء إنساني، وغربة عن أنبل ما في مجتمعهم من نخوة وإجارة وكرم ورجولة وشهامة أردنية مشهودة، ممن يجرؤون على رثاء واحد مثل آصف شوكت، الذي أبلى البلاء كله في مجزرة حماة التاريخية، وفاز بعدها ببشرى الأسد، أو مثل هشام اختيار قاتل المعلم كمال جنبلاط، ناهيك عمن يرون المستجيرين بنا من لظى الجحيم السوري على أنهم قوم مصابون بالجرب ينبغي ردهم على أعقابهم، فهؤلاء هم الأعشاب الضارة في حقل الرأي والرأي الآخر، ممن ليس لديهم على الأرجح سلطة ضميرية نقية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي