عطفاً على السؤال الاستنكاري الذي أطلقه وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، ودوى صداه خارج مؤتمر أصدقاء الشعب السوري المنعقد في باريس أوائل تموز الماضي، حين قال بنبرة اتهامية تشوبها المرارة: أين السيد كوفي أنان؟ نقول عطفاً على ذلك السؤال الذي نعى مهمة المبعوث المشترك، وبصوت لا يخلو كذلك من الدهشة والاستغراب: أين السيد سيرغي لافروف؟!
فطوال مراحل الثورة السورية، لم يبخل علينا وزير الخارجية الروسي بإطلالة شبه يومية، مدافعاً عن نظام بشار الأسد، محذراً من مغبة التدخل الخارجي، وواضعاً كل العصي الممكنة في عجلة التغيير في البلد الذي ثار شعبه، وأمسك رويداً رويداً بزمام أمره، حتى بدا لنا لافروف كمن يقوم أحيانا مقام وليد المعلم كوزير خارجية للنظام المعزول، وناطقاً باسم الحرس القديم في القيادة القطرية للحزب القائد للدولة والمجتمع.
إذ منذ أعلن كوفي أنان، في مطلع آب الحالي، استقالته من مهمته كمبعوث عربي دولي مشترك، محملاً سائر الأطراف المعنية مسؤولية فشل وساطته، اختفى سيرغي فيكوتروفيتش لافروف فجأة عن شاشات التلفزيون، ودخل في صمت مطبق لم نعتد عليه قبلاً من جانب هذا الدبلوماسي الروسي المغرم بالأضواء، ولم نعرفه يوما عن هذا السوفيتي السابق، المسكون بحلم استعادة دور الدولة العظمى السابقة، وبالحنين إلى دبلوماسية الحرب الباردة.
لم تكن مواقف سيرغي لافروف المتحدية للغرب في مجلس الأمن وخارجه، تعبيراً عن مواقف شخصية بالضرورة القطعية، إلا أن هذا الاستخدام المفرط للورقة السورية في سوق المساومات الدولية، وكل هذا العناد في وجه المتغيرات الداخلية السورية، وهذا الانكار للحقائق التي غيرت الواقع على الأرض، كان على الأرجح تعبيراً عن سياسة روسية أشمل نطاقاً من رقعة الجغرافيا السورية، أسهم لافروف نفسه في بلورتها، وتسويغ التمسك بها طويلاً في مطبخ صنع القرار الروسي المغلق على نفسه.
وإذا كان هذا التقدير صحيحاً إلى أن يثبت عكسه، فإنه يمكن لنا فهم أسباب هذا الاختفاء شبه القسري لناظر الدبلوماسية الروسية، باعتباره واحداً من أعضاء الفريق الذي بنى سياسة أحادية قصيرة النظر، وضعت موسكو في موقف حرج، وأظهرتها كقوة تدخل سلبي، وأفقدتها القدرة على مواصلة أداء دور يليق بمكانة دولة كبيرة على مسرح السياسة الدولية، وذلك بعد أن ابتذل لافروف مفهوم حق النقض وشل مجلس الأمن، الأمر الذي أسقط ورقة أنان لاحقا من بين يدي صاحب دبلوماسية اللاءات الشهيرة.
لقد مرت أحداث كثيرة، وجرت العديد من التطورات التي كانت كل واحدة منها فرصة سانحة لناظر الخارجية الروسية المناكف، لأن يُظهر فيها ديماغوجيته الدبلوماسية، ويعيد جلاء صورته كمتحدث لا يمكن تجاوزه في أي من الشؤون السورية. غير أن هذا الانقطاع الذي لا سابق له من جانب وزير خارجية فلاديمير بوتن، يشير إلى ما هو أكثر من الانكفاء المفاجئ، حتى لا نقول الانسحاب من أزمة بدت روسية أكثر من كونها سورية.
إذ يبدو أن صدمة استقالة كوفي أنان، وما سبقها وما تلاها من صدمات كبيرة ، مثل القضاء على الرؤوس الكبيرة في خلية الأزمة السورية، ثم انشقاق رئيس الوزراء رياض حجاب، ونشوب معركة حلب، وغير ذلك من التطورات المتفرقة، قد أقعدت سيرغي لافروف عن الحركة، وألقمته حجراً لا يسهل ابتلاعه، الأمر الذي أفضى إلى هذه الانكفاءة الروسية التي حاولت إيران تعويضها بدون طائل.
والى أن يعاود سيرغي لافروف، أو خليفته، الظهور على خشبة المسرح السوري من جديد، نأمل أن يكون هذا الإخفاق المؤسف الذي حصدته الدبلوماسية العقيمة على يدي لافروف، مناسبة موضوعية كي تُجري فيها موسكو الحساب العسير مع النفس، وتقوّم الوضع المتغير، وذلك بمراجعة المواقف العدمية، والسياسات قصيرة النظر، وكل هذا الأداء الدبلوماسي القائم على غاية لا تبررها الوسيلة، حتى إن كانت من وزن ميناء في طرطوس أو صفقة أسلحة جديدة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي