على نحو ما استقرت عليه توقعات المراقبين من قبل، وتوافقت عليه أغلبية آراء السوريين سلفاً، فشلت هدنة العيد المقترحة لأربعة أيام كان من المقدر لها أن تفتح كوة صغيرة في جدار الأزمة المتفاقمة، وأن تستدرج خطوات أخرى لاحقة على طريق سياسية بديلة، قد تفضي إلى الخروج من المأزق الحاد الذي انحشرت فيه سائر الأطراف المتورطة في مواقف تخرج شيئاً فشيئاً عن نطاق السيطرة.
ومع أنه يمكن توجيه نقد شديد إلى فكرة الهدنة الطوعية المفتقرة إلى تفويض ملزم وقواعد إرشاد وآليات عمل وقوة مراقبة مستقلة، فإنه يجب توجيه نقد أشد إلى المفهوم الذي انبنت عليه نظرية خفض العنف تدريجياً، اتكالاً على طرفين يلعبان لعبة صفرية، حيث كل كسب هنا يسجل خسارة صافية هناك.
وعليه، فليس في أمر إخفاق الوساطة وفشل هدنة ولدت ميتة، أي مفاجأة غير متوقعة، إن لم نقل إن النجاح وسط كل هذا التشابك بين المتقاتلين على الأرض، وفقدان أدنى درجة من درجات الثقة، كان هو المفاجأة بعينها، فيما لو أظهر أي فريق علامة تعب في حرب شعارها "إما قاتل أو مقتول"، وباطنها إعادة بناء خريطة تحالفات إقليمية تتجاوز حدودها رقعة المنطقة، وبالتالي إنتاج توازنات جديدة في هيكل علاقات القوة.
وقد يطول شرح أسباب فشل هدنة الأيام الأربعة، وهو ما يستدعي طرح سؤال مقابل: لماذا نجحت هدنة الأربعين سنة على جبهة الجولان، وتحولت إلى ما يشبه الثابت الوحيد وسط فيض من المتغيرات التي عصفت بقوة على البيئة السياسية المحيطة بهذه الهدنة ؟
في معرض الإجابة عن مثل هذا السؤال الذي لم يطرح على التداول الصريح منذ أول وساطة مجهضة، ينبغي فهم النوازع والهواجس والتحسبات المتحكمة برؤية حاكم دمشق، حين يبدي امتثالاً كلياً لاتفاق وقف إطلاق النار على جبهة الجولان، ولا يتجاسر على الرد حين تضرب إسرائيل في العمق السوري، فيما لا يتوانى للحظة واحدة عن استخدام كل ما في حوزته من فائض قوة للرد بإفراط شديد على شعبه، والتصرف معه كقوة احتلال أجنبية.
لا تحتاج الإجابة إلى إعمال العقل كثيراً، وتقليب الموقف على جوانبه طويلاً. فإذا كانت مسألة الحفاظ على النظام، ومواصلة الإمساك بالسلطة، هي المعيار الأول والأخير في قبول الهدنة أو رفضها، يصبح التعايش مع هدنة دائمة مع إسرائيل أمراً يمكن القبول به، وتسويغه بجملة ثورية صاخبة، طالما أن العدو الخارجي توقف من تلقاء نفسه على مشارف العاصمة، فيما تغدو الهدنة مع ثورة الداخل، في المقابل، أول خطوة على طريق خسارة السلطة.
من هنا، فإنه يمكن فهم دافعية حكم آل الأسد الرافض في العمق لكل هدنة قصيرة، طالما أن لديه مخزوناً من احتياطي القوة، ويمتلك قدرة نارية هائلة، يستطيع بها المراوغة، وإطالة أمد بقائه في السلطة، ومن ثم مواصلة الرهان حتى اللحظة الأخيرة، للحصول على صفقة دولية تحقق له البقاء، ولو إلى أجل معلوم في سدة السلطة.
إزاء ذلك كله، فإن من المرجح أن يؤدي سقوط الهدنة الموؤودة في مهدها، إلى إحجام الوسطاء عن التقدم بأي عرض مماثل في الفترة الطويلة المقبلة، وأن تتصاعد حدة المعارك، وأن تسيل المزيد من الدماء البريئة، إلى أن يحدث التطور المؤجل على صعيد المقاربة الأميركية، ويقع التحول المؤدي إلى كسر نقطة التعادل الراهن في ميزان القوة؛ إذ يمكن عندها فقط حمل حاكم دمشق حملاً على القبول بهدنة تحت الرقابة الدولية، ودخوله مرغماً على عتبة التسليم بمرحلة وسيطة، تفضي إلى دولة مدنية ديمقراطية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي