لا يكل المرء من تكرار القول إن الحدث المصري لا يخص أبناء هبة النيل وحدهم، وإن كل تطور في البلد العربي الأكبر له انعكاسات مباشرة في المحيط الإقليمي الأوسع، فما بالك إذا كانت الوقائع بمثابة زلازل سياسية، وكانت التحولات المصرية الداخلية من وزن انعطافات كبرى مفتوحة على مرحلة تأسيسية أكبر، وذلك على نحو ما تشهده الميادين في قاهرة المعز على مدى نحو عامين صاخبين بالمتغيرات الداخلية والتداعيات العربية.
ولسنا اليوم في معرض الدخول في السجالات السياسية الحامية والمناظرات الفكرية الجارية على قدم وساق بين أطراف المعادلة المصرية، فأهل مصر أدرى بشعابها، وكل قول أو موقف من الخارج العربي، سواء على مستوى النخب أو قادة الرأي العام، لا يقدم كثيراً ولا يؤخر أبداً في مياه نهر التفاعلات المتدفق من أعالي الصعيد إلى الدلتا والسواحل الشمالية، حتى لا نقول إن مثل هذا الرأي أو ذاك غير مسموع وسط هذه الجلبة الكبيرة.
وعليه، فنحن المخاطبين عن بعد بهذه المتغيرات المتلاحقة في البيئة السياسية المصرية، معنيون فقط بالتقاط المغزى، وبمحاولة فهم هذه الدينامية، وأخذ الدروس الثمينة من مثل هذا المخاض الذي أعطى للربيع العربي صبغة إسلامية مبهمة، وبشّر بزمن جديد تتصدر فيه حركة الإخوان المسلمين المشهد في البلد القاعدي في المنطقة، وتفيض عنه إلى الجوار من الشمال الإفريقي إلى معظم أنحاء المشرق العربي، الذي كادت فيه القوى التقليدية والأحزاب المدنية أن تسلم بالأمر وتعتبره قدراً مقدراً.
غير أن التطورات الأخيرة المتلاحقة في المحروسة زعزعت لدى الكثيرين بيننا ذلك الاعتقاد القائل إن الإسلام السياسي هو قائد هذه المرحلة، فوق أنها فتحت الأعين على اتساعها، والأذهان بكل رهافتها، على حقائق نسبية لم تكن واردة في الحسابات المتعجلة، والانطباعات الأولية، عن وجاهة تلك الافتراضات المبكرة، القائلة إننا أمام موجة تسونامي أصولي لا راد له في المدى المنظور.
ذلك أن هذا النهوض العارم للقوى الوطنية الديمقراطية المصرية، وتلك التباشير الأولية الآتية من تونس، تشير على نحو واضح إلى أن شمس الأصوليين والسلفيين قد اكفهرت وهي في كبد السماء، وان ذلك المد الذي اكتسح شواطئ الحياة السياسية العربية كلها، قد ارتد كجزْر قبل أن يصبح البدر في تمام اكتماله، وذلك بعد أن تكفل أداء هؤلاء الذين أمسكوا بعصا السلطة على حين غرة، بإثارة هواجس الجميع، ومن ثم حملهم حملاً على المبادرة إلى وقف هذا التوغل الشامل على حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ولعل هذا الحراك المتواصل الآن عبر مختلف الميادين المصرية، المفعم بمظاهر قوة دفع ذاتية مناهضة لأخونة الدولة، ومشاهد باهرة في مقارعة الاستبداد الديني بكل صوره، يؤكد على أن القوم لن يستسلموا لمنطق المكاسرة والغلبة، وبالتالي التهميش والإقصاء، بدليل هذه الموجات البشرية المتلاحقة، وهذا الوعي المتنامي، أمام رهاب قوى الاستبداد الطالعة من عهد العصور الوسطى، ومخزون الإرهاب القابع في تلافيف عقل من كانوا بالأمس القريب ضحايا الدكتاتورية.
وهكذا، وفي زمن قياسي، خلق الحركيون الإسلاميون لأنفسهم بأنفسهم موجة كراهية من جانب شركاء لهم في الثورة الديمقراطية المختطفة، وأسسوا بسوء إدارتهم، وحروبهم الجانبية الضارية ضد القضاء والإعلام والنساء والأقليات والمثقفين والفنانين وغيرهم، قاعدة عريضة صلبة، تدافع عن حصتها العادلة في الحكم وفي إدارة الدولة، في وجه من عمّقوا الارتياب ضدهم بأنهم أناس لا يعرفون الشراكة مع أحد، ولا يؤمنون بالديمقراطية وتداول السلطة.
وإزاء ذلك كله، فان الاستقواء علينا في هذا البحر العربي المديد، بما حققته ثورة الأصوليين والسلفيين في مصر وتونس وغيرهما من البلدان العربية، مما بدا أنه إنجازات ساحقة، ورسمته من خط مستقيم يومئ إلى ما ينتظرنا هنا وهناك من مصائر مماثلة، نقول إن هذا الاستقواء بشعر بنت الخالة، لم يعد يخيفنا بعد اليوم، ونحن نشهد الآن غروب نجم أولئك الذين استعلوا في الأرض، وزاغت منهم الأبصار في لحظة زمنية ملتبسة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي