فيما كنت أتنقل بين القنوات الفضائية بعد منتصف ليلة الثلاثاء الماضي، لفتني قول مراسل ميداني، في ختام تقرير مرتجل له حول المجريات اليومية في دمشق، إنه يسمع في تلك اللحظة أصوات سلسلة من الانفجارات الضخمة تحدث في المنطقة الشمالية الغربية من العاصمة، حيث معسكرات قوات النخبة في الجيش السوري. وأفتى ذلك المراسل من عنده، وهو لا يدري بما يحدث حقاً، أن مرد ذلك قد يكون وقوع انشقاق في اللواء 105.
في صبيحة اليوم التالي، قمت بجولة اعتيادية على عدد من المحطات الفضائية، كي أتحرى صحة ذلك الخبر المثير، فلم أعثر على أي نبأ يتصل بماهية تقرير المراسل المتحمس لمسألة الانشقاق في اللواء الذي كان يقوده العميد مناف طلاس. فقلت في نفسي: يا لمبالغات هؤلاء المراسلين الهواة الذين يبثون، وهم ممتلئون بالحماسة وحسن النية، مثل هذه التقارير العشوائية!
غير أنه لم تمض سوى ساعات قليلة، حتى كان تقرير ذلك الناشط الميداني يلقى بعض الصدى في عدد من وكالات الأنباء الغربية التي نقلت عن مصادر لم تسمها أن إسرائيل قامت بشن غارة على قافلة كانت تنقل شحنة من الصواريخ المتطورة لصالح حزب الله. فيما ظلت وسائل الإعلام الإسرائيلية صامتة، بأمر من الرقابة العسكرية؛ وبقيت أجهزة النظام السوري، في المقابل، تلوذ بصمتها المعهود لساعات أخرى إضافية.
كان عامل الوقت كفيلاً بفض جانب من الغموض. فأمام سيل الأخبار، اضطرت قيادة الجيش النظامي السوري إلى الاعتراف بالغارة. إلا أنها هونت، كعادتها، من الأمر، وراحت توظفه لصالح روايتها عن العصابات المسلحة التي يديرها حلف إسرائيلي-أميركي-خليجي-تركي جهنمي! بدون أن تختم بيانها ذلك بالعبارة الكلاسيكية المثيرة للسخرية، بأن سورية تحتفظ بحقها في الرد على العدوان، في الزمان والمكان الملائمين.
فيما بعد، قالت تقارير صحفية إن الغارة الإسرائيلية استهدفت موقعين. وبعد ذلك قالت إنها أربعة مواقع، وأنها استغرقت مدة أربع إلى خمس ساعات، وأنها وقعت بالفعل في المنطقة الشمالية الغربية من دمشق، أي بعيداً عن الحدود السورية مع البقاع، الأمر الذي يطرح بعض الأسئلة الأولية، لعل في مقدمتها أن الغارة الجوية لا تستغرق في العادة أكثر من دقائق معدودة، فلماذا اقتضت كل هذه الساعات إذن؟
إذا كانت هذه المعلومة صحيحة، فإنه يمكن الاستنتاج بصورة تلقائية أنه كانت هناك عملية إنزال لقوات إسرائيلية محمولة جواً "مجوقلة"، عملت على الأرض بدون رد فعل يذكر طوال هذه المدة الطويلة، في مجمع عسكري حصين يحتوي على أهداف تستحق المخاطرة.
وبدون خبرة عسكرية، فإنه يمكن الافتراض أن الغارة استهدفت ما هو أكثر من شحنة صواريخ نوعية كانت تنقل على عربات متجهة إلى الحدود اللبنانية؛ فالمسافة بين ضواحي دمشق والبقاع لا تستغرق عدة أيام، ولا تنتظر نحو أسبوع، أرسلت خلاله إسرائيل مبعوثين لها إلى كل من واشنطن وموسكو، ونصبت بطاريات مضادة للصواريخ، وفتحت الملاجئ، ووزعت الكمامات، وهيأت الرأي العام لعملية عسكرية وشيكة.
وعليه، فإن السؤال هو ماذا كان في ذلك المجمع العسكري من أهداف ثمينة، أقنعت أميركا بمنح الضوء الأخضر لحليفتها الاستراتيجية للقيام بهذه المخاطرة المحسوبة؟ هل الأمر يتعلق بتكنولوجيات عسكرية إيرانية جديدة؟ وهل كان هناك خبراء إيرانيون جرى تصفيتهم أو أسر بعض منهم. أم أنه مجرد تدريب ميداني لعملية أوسع قد تنفذها إسرائيل لاحقاً ضد منشآت نووية إيرانية، وتختبر فيها قدرتها على شل منظومات السيطرة والقيادة وبطاريات الدفاع الجوي؟
إذن، نحن أمام عملية عسكرية كبيرة لم ينكشف منها سوى أقل القليل، وأن إسرائيل لا ترغب حتى الآن في الإفصاح عما يزيد من حرج النظام المنهك، ويدفعه إلى القيام بعمل طائش. كما لا تود دمشق من جهتها البوح بكامل القصة، درءاً لمزيد من الإهانة، خصوصاً أن نظام دفاعاتها الجوية الذي أسقط طائرة تركية العام الماضي، كان أعمى، ولم يعمل طوال فترة الغارة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي