لو أن جلسة مجلس النواب الأخيرة، المثيرة لأسوأ الانطباعات وأشد الأحكام قسوة، كانت بعد مرور عام أو عامين من عمر هذا المجلس، وكان الأمر متعلقاً بمسألة سياسية وخيارات استراتيجية، لمر المشهد الصادم بدون أن يترك وراءه كل هذا الغضب الممزوج بالألم، بعد وقت قصير من بثه بالصوت والصورة؛ ولظلت بقية من أمل ضئيل معلقة تحت سقف القبة، في إمكانية تجاوز الموقف المؤسف، والتعلم من التجربة الغضة، والبناء على منجز انتخابي تحقق وفق أفضل معايير النزاهة الممكنة.
ذلك أن فداحة ما حدث من مشاجرات حامية، وتم تبادله من كلمات مهينة، فضلاً عما بدا وكأنه تلويح باستخدام أسلحة نارية خفيفة، كان في مجمله أقرب ما يكون إلى ورقة نعي مبكرة لرهان كثير من المعولين على تمكن النواب من عبور المرحلة الانتقالية بالحد الأدنى من الشعور بجسامة المهمات الملقاة على كواهل مشرعين انتدبوا أنفسهم لإنجاز ما بدا أنه استحقاق إصلاحي واسع، يؤسس لعهد برلماني ديمقراطي تقتضيه ضرورات الربيع العربي وإلحاحاته الموضوعية.
لقد بدت الصورة التي بثتها محطات فضائية عربية وأجنبية، وسط تعليقات سريعة تراوحت بين الدهشة والصدمة والتشفّي، أشبه بصورة اجتماع اتحاد طلبة حديث النشأة، يفتقر فيه الشباب بعد إلى تقاليد العمل الجماعي، وثقافة الحوار وتسوية الخلافات البينية، الأمر الذي قوض مكانة مجلس نواب يضم أناساً مجربين وذوي خبرات حياتية، حتى وإن كانوا غير مسيسين تماماً. كما بدد في الوقت ذاته هيبة أهم مؤسسة على الإطلاق من مؤسسات الحياة الديمقراطية، لدى مجتمع ظل يحترم هذه المؤسسة التشريعية الرقابية ويعول عليها.
ولعل خيبة الأمل التي استبدت بمن كانوا يأملون في ارتفاع نسبي في أداء النواب الجدد، قياساً بالنواب السابقين الذين أشبعهم الإعلام والرأي العام تقريعاً على أداء أكثريتهم المتهافت حول المنافع الشخصية، هذه الخيبة مردها أساساً وجود نواب القائمة الوطنية، وبعض البرلمانيين المشهود لهم بالرصانة من مجالس سابقة، وذلك بعد أن رأينا رؤية العين المجردة نواب القوائم وقد أصبحوا نواب دوائر فردية، وشاهدنا الرجال ذوي الخبرات المتراكمة وقد اختفوا من صدارة المشهد الذي لا يسر مشفقاً على هذه التجربة الحزينة.
ولا عذر يمكن التعلل به من أجل تبرير هذا الإخفاق المبكر جداً من عمر هذا المجلس الذي خلا من أحزاب سياسية وازنة، فراح أعضاؤه يبنون تحالفات ذات سيولة، لم تصمد لدى أول اختبار لها في التوافق على تسمية رئيس حكومة. وهو الأمر الذي بعث برسالة غير مشفّرة، مفادها أنه لا وجود لحياة برلمانية حقاً من غير حياة حزبية جادة، قادرة على إقامة قوائم فوق شخصية، وبناء روافع راسخة يعتدّ بها، في إطار ترشيح رؤساء الحكومات، وتأمين الأغلبية اللازمة لإدامة الثقة بالحكومة لأربع سنوات لاحقة.
ومع أنه يمكن تحميل وزر هذا الإخفاق الجارح في تعاطي النواب مع مسألة الترشيحات وبناء التحالفات الهشّة، إلى عيوب قانون الانتخاب وقصوره في إنتاج مجلس يتساوق وتحديات هذه المرحلة، إلا أن المشهد الذي تجلى عنه المجلس لدى مناقشة مسألة رفع أسعار المشتقات النفطية، وما تخلله من سجالات غير لائقة، تجاوزت كل محظور، وقع في عيب أوسع نطاقاً من حدود القاعة البرلمانية، خصوصاً مع المسّ بالكرامات الشخصية، والتطاول على الأعراف المعمول بها لدى التطارح حول أي مسألة خلافية.
على أي حال، لن تمر جلسة المجلس الذي "كسر عصاته من أول غزواته"، بدون أن تلقي بظلالها الكئيبة على المشهد النيابي كله، وأن تخفض من مستوى التوقعات الضئيلة أصلاً لدى الطبقة السياسية، وأن تترك جروحاً غائرة في رأي عام لا يعرف التسامح أساساً، ولا يتقبل أي ذريعة لتسويق هذا الأداء الهابط؛ الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن المطالبات بحل هكذا مجلس لن تتأخر كثيراً، حتى لا نقول إن المتحفزين سلفاً لمثل هذه المطالب سوف يلقون تفهماً واسعاً ويجدون أذناً صاغية، وذلك بعد أن حكم المجلس على نفسه بأنه غير مؤهل للقيام بالإصلاحات المنشودة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي