السؤال الاستفهامي التعجبي الاستنكاري أعلاه، كان سيظل -لولا كاميرا هاتف محمول- بلا إجابة شافية إلى أمد غير معلوم، وأن لا يجد جواباً له على الإطلاق، شأنه في ذلك شأن المئات من تصفيات مشابهة حدثت في سورية على مدى العامين الماضيين، وحدثت مثلها من قبل في لبنان زمن الوصاية الأمنية، عندما كان كل اغتيال جديد يجبّ ما قبله من أفعال إعدام وحشية، ثم يتكفل عامل الوقت بنقل الواقعة من حيّز الصدمة إلى دائرة النسيان.
ومع أن كثيراً من التصفيات البشعة لشخصيات سياسية وأمنية كانت تشير إشارة واضحة إلى ماهية الجهة الوحيدة المستفيدة حصراً من تغييب أولئك الخصوم والأعداء، إلا أن الفاعل الماهر في حجب الأدلّة والقرائن، ظل قادراً على الاختباء وراء غلالة رقيقة من الشك، فيما كانت قوة الأمر الواقع، والتغطيات الأمنية، والالتباسات السياسية، تتضافر معا لصالح تجهيل الفاعل، وقيد الحادث ضد مجهول.
وإذا كان القاتل المحترف قد تمكن من التخلص من الاتهامات السياسية المتلاحقة على طول الخط، ونجا من المساءلات القانونية في بلد مثل لبنان، لديه سيادة مجزوءة، ونظام مغلوب على أمره، ومنظومة قضاء معطلة، فكيف لمثل هذا القاتل المتمرس في لعبة الإخفاء القسري للمعارضين، أن يقع في براثن فعلته بالجرم المشهود، وأن يترك أثراً خلفه في ساحة الجريمة، طالما أنه اللاعب صاحب الخبرة النوعية المتراكمة على هذا الصعيد؟
في كل مرة وقع تفجير ضد مدنيين منذ عامين، أو جرت عملية اغتيال لشخصية ذات رمزية محسوبة على النظام السوري، كان السؤال المعلق في الهواء هو: من القاتل؟ ومن هي الجهة التي تقف وراء هذه العمليات التي تحدث في أكثر المناطق حماية أمنية؟ هل هي المعارضة المسلحة التي كانت تتبرأ من هذه الأفعال الدامية، أم هو النظام الذي لم يكن يتردد في اتهام الجماعات الإرهابية بمثل هذه المقارفات؟
والحق، أن دفوعات النظام عن نفسه كانت تبدو وجيهة، خصوصاً أن متهميه لم يتمكنوا من تقديم أدلّة مقنعة على تورطه في أي من تلك الجرائم المروعة، فيما كان المعارضون على مختلف أطيافهم ينكرون ارتكاب هذه الأعمال الارهابية، بمن في ذلك الجماعات الجهادية، مثل جبهة النصرة التي كانت لا تتورع عن تحمل مسؤولية بعض التفجيرات، ولا تتأخر في تبنيها والافتخار بها على رؤوس الأشهاد.
لقد ظل المراقب لهذه السلسلة الطويلة من العمليات الدامية حائراً بين الروايتين المتناقضتين. إذ مهما كانت لدى النظام ذي العقلية الشيطانية، مصلحة في التخلص من معارضيه، فإن أي عملية في قلب دمشق تضعف بالضرورة الموضوعية من صورته في الخارج، وتزعزع الثقة به لدى أنصاره في الداخل، الأمر الذي كان يُبهت كل رواية تنسب تلك الأفعال إلى النظام الحريص على مظهر القابض على زمام الأمر كله.
كان مقدراً لحالة عدم اليقين هذه، إزاء هوية الجهة القائمة بمثل هذه العمليات الإرهابية بدون مراء، أن تستمر إلى ما لا نهاية، لولا ذلك الشريط المبثوث مؤخراً عن عملية اغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، والذي قضى نحبه قبل نحو شهر في ظروف غامضة، وسط منطقة أمنية مغلقة. إذ اتضح أن النظام الغارق في دماء شعبه هو المسؤول مسؤولية حصرية عن عملية إعدام تمت بتدبير مسبق، وبدم بارد، لشخصية دينية موالية، كان من المقدر لمقتلها أن يُلحق بالمعارضة المسلحة وصمة إرهابية مقيتة.
غير أن من سوء حظ النظام الذي لا يتورع أبداً عن القيام بأي شيء من أجل إطالة بقائه، أن عصرنا هذا هو عصر الصورة، القادرة بمفردها على هدم كل الروايات وجلاء كل غموض، حول أي من الوقائع الجارية؛ أي إننا لسنا في زمن مجزرة حماة العام 1982 التي لم يعلم بها أحد إلا بعد انتهائها، وإنما في زمن الهواتف المحمولة التي كانت أحد أهم أسلحة ثورة الكرامة، وأبلغ مخبر في نقل الحقيقة كما هي، تماماً على نحو ما حدث للشيخ البوطي مؤخراً.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي