في إحدى أمسيات ثقافية كانت لا تزال في بداياتها في مدينتنا ..دعيت إليها، كان هو المحاضر فيها..لم أكن أعرفه.
ربما أكون سمعت باسمه ..لكن اسمه –أبدا- لم يكن مستقرا في ذاكرتي كاسم له دلالة ثقافية تستأثر باهتمامي..
لا أتذكر إذا كنت شعرت باسمه في رواية "الجبال المروية بالدم"  كمترجم أم لا ..
هذه الرواية  المعبرة عن واقع إنساني يعيشه الكورد،  من إبداع  الروائي الأول -كرديا سوريا،ربما -  من ناحية البدء في العمل الروائي..وهو القدير "بافي نازي"   Bavê Nazê.
 هذا الذي يدرّس في جامعة دهوك حاليا.
لقد التقيت به أكثر من مرة..إحداها عندما  دعاني بعضهم الى رحلة إلى "عين ديوار" مع جمع من كتاب كورد أتذكر منهم المدعو له بالسلامة والشفاء "رزو" و"كوني ره ش" و"الشاعر "دحام عبد الفتاح" و"بافي نازي" والمرحوم "بافي عكيد" و"صالح جانكو" وغيرهم..لم أعد أتذكرهم..فقد كان ذلك منذ فترة طويلة..
ولقد تناولنا طعام الغداء في مقصف "عين ديوار" المطل على نهر دجلة وجزيرة بوتان..
وأذكر أن احد العاملين-أو المتعهدين على الأغلب..أصر على أن يدفع عنا ..
فهو يعرف أغلبنا، ولكن معرفته مع "بافي نازي" كان أقوى –كما لاحظت..وكان ذلك الدافع الأقوى لفعل ذلك. طبعا اتفقنا أخيرا على أن نقبل هديته جزئيا .لا كاملا لئلا نحمّله الكثير.
كانت جلسة رائعة..
فنهر دجلة ..وهو نهر كردي بامتياز منبعا ومرورا وتسمية –بحسب ما ورد في إحدى أعداد مجلة Decle" " التي كانت تصدر في كردستان العراق باللغة الكردية-الحروف اللاتينية..ولا ادري اذا كانت لا تزال تصدر أم لا ..!
كان النهر  ينساب  في الوادي كثعبان يلتوي هنا وهناك..يخبرنا عن تاريخ كردي عريق منذ القديم، ومرورا  بالإمارة الكردية" بوتان" وأشهر امرائها المرحوم "جلادت بدرخان" وصعودا نحو أبناء الأثير..والملا الجزيري(Melayê cezîrî) وديوانه الشعري الرائع والذي شرحه المرحوم ملا احمد الزفنكي –مفتي  قامشلي في الخمسينات- وأسماه "العقد الجوهري في شرح ديوان الجزري" ..واحمدي خاني مؤلف ملحمة "مموزين" .. والمدرسة الحمراء، وقبر "مم وزين" الشاهدين على:
 "حب نبت في الأرض وأينع في السماء " بلغة الدكتور محمد سعيد البوطي..
والدكتور محمد سعيد هذا هو نجل العالم الجليل"ملا رمضان جيلََكي" والذي تسمى "البوطي"  لئلا ينسى موطن الآباء والأجداد،ولا يُنسى أيضا..
وكان في مطلع ذهابه الى دمشق من المناضلين الحزبيين من اجل الحقوق الكردية ..ولكن بعض الحزبيين الذين اتخذوا تقليد الغربيين  مذهبا، فعاشوا –حينها –ليالي خاصة من المتع والسهر‘  فيه ما يخالف معتقده الديني، وجعله يتجنب الرفقة معهم – كما صرح لي به ،في إحدى زياراتي له قبل وفاته-
والشيء بالشيء يذكر..
كنت في زيارة له ومعي احد الأصدقاء..بقينا قرابة  ساعة وكان يتحدث بالعربية مع زواره وعندما ذهبوا، استأذنته في الذهاب. فأمسك بيدي ضاحكا وقال:اجلس.. إننا لم نتكلم قدر يشبع رغبتنا ب الحديث بالكردية..!
 من الأدب أن نتحدث بلغة الذين معنا، لكي يفهمونا، والآن بقينا لحالنا فلنتحدث بالكردية معا واستبقانا أكثر من ساعة أخرى.وكان دائما يذكر موطن الآباء والأجداد وحاول أكثر من مرة لزيارته لكن الكبر أقعده عن تحقيق هذه الرغبة التي  ذهبت معه الى القبر.
كان  أهل الشام يدعونه "الشيخ الملا" ويوصف باعتباره  ممثل مذهب الشافعية في الشام.. وكان يدرس في جزيرة بوتان، ودرّس فيها..وكان والدي احد تلامذته هناك.رحمهم الله جميعا..
في كتابه "هذا والدي" يذكر الدكتور البوطي الكثير من مجريات حياته منذ غادر قرية جيلَكا- Cêleka- مرورا بـ"عين ديوار" فـ"ديرك" فـ"قامشلي"[i]..الى دمشق..حيث استقر، واكتسب مكانة علمية ودينية قيّمة هناك..وهناك بادر الدكتور البوطي –وهو لا يزال في مطلع العمر،متأثرا بما كانت ترويه والدته المرحومة"منجي" ووالده المرحوم "ملا رمضان" حكايات الأجداد والأوطان وفولكلوره..الى ترجمة ملحمة  "مم وزين" من اللغة  الكردية الى اللغة العربية ولاقت شهرة كبيرة وتولت طباعتها ..كان ذلك في نهاية الأربعينات أو بداية الخمسينات.. حيث كتب لها مقدمة اعتبرت حينها جريئة..عن القومية الكردية وحقوقهم وأدبهم ومظلوميتهم  ..ولم يكن حينها سهلا التعبير عن مثل هذه المفاهيم سياسيا...وكانت الفكرة الوطنية غالبة في ذهنية الأكثرية من سكان سوريا قبل أن تأتي الفكرة التي تشربت الشوفينية  العربية مع مجيء الناصرية ورفيقتها البعثية التي زادت من وتيرة الاستثمار للشعور القومي لغايات سياسية مصلحيه تخدم القيادات للوصول الى السلطة..فأصبحت ثقافة التوجه العروبي ثقافة شعارات واحتكار السلطة.
وسأورد هذه المقدمة في وقت  لاحق ان شاء الله.
فقد حصلت عليها من النسخة الثانية المطبوعة في العام 1952 في بيروت..مع أن النسخة الأولى طبعت في دمشق.. وقد طلبت نسخة منها في السبعينات من الدكتور فاعتذر لأنه لا يحتفظ بها..ولم تعد السلطات تسمح بإدراج المقدمة هذه في الطبعة الثالثة .والتي يحكي فيها الدكتور البوطي عن سبب إعادة الطبعة..ومن ثم توالت طبعات عديدة .
لماذا الإسهاب عن البوطي وبداية المقال توحي بأنها عن رزو..؟
في تلك الأمسية -ولا أتذكر في أي عام- أقدر أنها كانت في التسعينات من القرن الماضي..أو ربما قبل ذلك... كانت المحاضرة التي ألقاها "رزو" أدبية؛ تذكر حالة الثقافة واللغة الكردية وتطرق الى قصة "مم و زين" وغيرها..وأذكر انه كان يتحدث عن طريقة  دراسة طلبة العلوم الشرعية الكورد في الكتاتيب"حجركا فقها-كما أسماها..وأذكر كم كنت معجبا بأسلوبه في السرد..وطلبت منه أن ينقلها الى كاسيت ويعطيني نسخة إذا كان ممكنا، ووعدني بذلك  ولكنه يبدو نسي..وعندما ذكّرته بطلبي مرة  قال سيجهزها في سيديه..ولكن الوعد أيضا يبدو انه نُسي.. خاصة أن ظروفه ساءت..وناله المرض العضال..الذي لا يزال يقاومه بإيمان-كما آمل.
وفي احتفال أعدت له وزارة الثقافة في إقليم كردستان ترافقنا ، لحضور فستقال جكرخوين في  "أربيل" بدعوة من وزارة الثقافة العراقية..حيث أمضيت هناك ستة أياما، عدت بعدها عبر تركيا،  مررت ببعض الأقرباء هناك.وكانت لحظات حققت فيها بعض أمنياتي في ذلك. فقد  شاهدت "برجا به لك" ومعالم جزيرة بوتان..ولكن عابرا للأسف..فلم يتح لي النزول والتجول بأريحية بسبب ضيق الوقت..
وقبل  ثلاثة سنوات او أربعة ربما،التقينا في نزهة الى "جم شرف" مع جمع من المهتمين بالشأن الثقافي  كرديا خاصة..وقد كتبت حينها عن أجواء النزهة ودور "رزو" في إضفاء الهدوء والرزانة إليها..كما امتاز عن الجميع بروح الإيثار في القيام بالخدمة طيلة الوقت.. وتحضير الشواء..
وفي مناسبات ثقافية كنا نلتقي..وكان دائما المثقف المهذب والدبلوماسي في حديثه مع نبرة ود كنت أتحسسها منه دائما..
خلال مرضه كنت أتصل معه هاتفيا،وقد ألتقيه أحيانا. وأحيانا قد  لا ألتقيه فيرد بعض أهله. بسبب لحظات نوم أو راحة أو ...
كنت على موعد  مع الأستاذ "دحام عبد الفتاح"  لنزوره معا، ولكن القدر سبقنا إليه..
 لروحه السلام والطمأنينة في رحاب رحمة الله العفو القدير.
واني أرى أن تكون مناسبة وفاته فرصة للأدباء والكتاب الكرد والمثقفين بشكل عام-حزبين ام مستقلين- لكي يوضع برنامج يلتقي  خلاله الكتاب- كوردا  وغير كورد -لإحياء ليال ثقافية تقرأ فيها نتاج كتابات عن حياة هذا الكاتب، وغيره من الكتاب المعروفين ،فيها..بروح ثقافية بعيدة عن التشنج السياسي كورديا وعربيا  وغير ذلك.
................................
· هذه المقالة كتبت قبل وفاته بفترة..وعندما بلغني نبا وفاته ،أضفت إليها الفقرة الأخيرة..ووجدت أن نشرها بعنوانها الأصلي ربما يكون له معنى.فإن لم يلحق السلامة في الدنيا فلعل روحه تلقى السلام هناك.
· وكنت كتبت مقالا بعنوان: "رزو سلاما" نشر في عدة مواقع منها كميا كوردا .الرابط التالي:
://www.gemyakurda.net/modules.php?name=News&file=article&sid=12974
[i] -هناك من يلفظ اسم ديرك بـ: ديركا حمكو ،وقامشلي، بـ: قامشلو..وأرى أن هذا اللفظ ليس مستقيما..
صحيح ان ديرك تنسب الى حمكو –مالكها الأول كما هو معروف، وأكد عليه عدد من الذين سألتهم عن ذلك ومنهم "الحاجة وضحة"  والدة الدكتور سليمان صالح أسعدها الله. عمرها أكثر من ثمانين عاما.
لكن أصل التسمية يتنازعها ثلاث  فرضيات: أحداها تعتبر الاسم مشتقا من دير-الدير-يك-واحد. فهي اذا ديريك..ولكن هذا التحليل لا يستقيم مع طبيعة اللغة الكردية..إلا إذا لفظناها ديرَك" أي دير واحد..ولكن لماذا يلفظ الاسم بكسر الراء؟ ديرِك..!
هنا تبرز الفرضية الثانية؛ والتي تقول ان الاسم مشتق من ده ريك-Di Rêk- باللغة الكردية طبعا. أي الطريقان ،لأن ممران كانا يمران فيها ،احدهما كان تقريبا في نفس الطريق الحالية الى عين ديوار، والآخر كان تقريبا حيث شارع معمل السجاد الحالي..كما اخبرني به السيد عبد الرحمن حاجو-اخو الحاجة وضحة ..وهما من سكنة ديرك القدماء بعد السيد إسماعيل حسين،ووالده الذي كان فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر بحسب ما أكد حفيده.
والفرضية الثالثة  هي:ده هيرك- Di h;rik أي المرتفعان الصغيران المحجران..لوجودهما متقاربين نوعا .
وأما اسم دير-يك، فيبدو غير مرجح لأن الدير نفسه هذا لم يبن إلا في مطلع الخمسينات ..على أنقاض أطلال قيل أن حجرا؛ مرسوم عليه الصليب  كان من الحجج التي اعتمدت لاعتبار المكان ديرا.
وقيل انها كانت  حجرة صغيرة عندما حاول البعض ترميمها وجد هذا الصليب المرسوم على حجر ..والجميع روايات أخذت من المعمرين والذين عايشوا فترة وجود ديرك كقرية، قبل أن ينتقل إليها المستشار الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين ثم استدعى – لغاية فرنسية سياسية- المسيحيين من هزخ وغيرها للسكن فيها ، والاعتماد عليهم في الكثير من شؤون المنطقة الإدارية. انظر أيضا،كتيب -( كنيسة  السيدة العذراء ولمحة عن المالكية. يوسف جبرائيل القس تحقيق جوزيف أسمر 1993).
وكذلك قامشلي،فالمعروف ان الكلمة مشتقة من النبتة المعروفة باسم "قامش" سواء اكانت تركية ام كردية .والاضافة "لي" تشير الى أن الاسم اشتقاق كردي ." Qamişlê " مكان القامش..فما الداعي لا ستخدام اللفظة "قامشلو" إذا؟ كان خطأ شائعا سرى الى عقول وأقلام الذين اعتمدوا هذه اللفظة ..او فليفسروا لنا استخدامها مشكورين.
وأدعو المهتمين باللغة الكردية الى البحث في المصطلحات بجدية كافية.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع