كان من المفهوم والمنطقي قبل عام أو أزيد قليلاً، أن تطرح المعارضة السورية وحلفاؤها “تنحي الأسد” كشرط لانعقاد “جنيف 2” أو الدخول في حل سياسي للأزمة السورية ... يومها كانت قوات المعارضة تقترب من ساحتي العباسيين والأمويين في قلب دمشق، وكانت جبهات النظام الشمالية والشرقية تنهار تباعاً، وكان المئات من المقاتلين، ومعهم المال والسلاح، يتدفقون إلى الداخل السوري من جبهات ... والأهم، كانت الولايات المتحدة والأطلسي وبعض أوروبا في الطريق لتفعيل “الخيار العسكري” الذي كان مطروحاً على الطاولة “غب الطلب”.

اليوم، تبدو الصورة مقلوبة تماماً، ميدانياً وسياسياً ... المعارضة في موقع دفاعي هزيل في كل من دمشق وحلب وأريافهما ومطاراتهما ... حلفاء المعارضة في “حيص وبيص” بعد ما أصابهم وأصاب الإقليم من تغيرات، بدءاً بالدوحة وليس انتهاء بالقاهرة ... أما المجتمع الدولي، فقد طلّق بالثلاث خيار اللجوء للقوة وسحبه من على الطاولة، بل ها هو يتجه بتسارع، صوب تسوية مع إيران تطال برنامجها النووي، وربما دورها الإقليمي في المنطقة.

المعارضة التي تدرك طبيعة وضعها الميداني أكثر من غيرها، وتعي التحولات في مواقف حلفائها وداعميها ورعاتها، ما زالت على مواقفها القديمة، وهي تكرر صبح مساء، أنه لا مشاركة في “جنيف 2” ما لم يتنح الأسد أو يبدي استعداده للتنحي، على أن يتوافر لذلك ضمانات عربية وإقليمية، لكأن شيئاً لم يتغير على الأرض وفي الميدان، ولا فضاءات السياسة الدولية والإقليمية، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟

هناك واحدٌ من تفسيرين لهذه المواقف “المفصومة” عن بيئتها وسياقها: الأول، ويقترح أن رفع سقف المطالب والشروط المسبقة، ليس في واقع الحال سوى “قنبلة دخانية” للتغطية على “انسحاب” المعارضة من مطالبها وتخليها عن شعاراتها السابقة”، وكلنا يتذكر جيداً “اللاءات الثلاثة الشهيرة” التي أطلقها أحمد عاصمي الجربا في القاهرة ... ما يعني أننا أمام هروب لفظي للأمام، بعد أن قرر الائتلاف المشاركة في جنيف، “لاحساً” لاءاته، وذاهبا إلى صلح وتفاوض واعتراف، كما جزمنا أنه سيفعل في حينه، أو وفقاً للنكتة السورية القديمة: المعارضة تغطي “غمّاز” على اليسار لتنعطف نحو اليمين.

والتفسير الثاني، أن بعض الدول العربية والإقليمية المناهضة للأسد والحل السياسي، ذات النفوذ القوي على المعارضة، والتي تتعرض بدورها لضغوط أمريكية للمشاركة في “جنيف 2”، إنما تحاول عرقلة هذا المؤتمر من خلال الطلب إلى المعارضة رفع سقف مطالبها وشروطها، والمعارضة وفقاً لهذا التفسير، إنما تنطق بلسان “مشغليها” الذين يختبئون خلف الخطابات النارية لبعض أركان الائتلاف والمجلس والجيش الحر.

وثمة تفسير ثالث، لم تكتمل المعلومات بشأنه، وملخصه أن بعض المعارضة، على علم بنيّة دول عربية وإقليمية، تتساوق شكلاً مع “جنيف 2”، وتعمل من تحت الطاولة وفي الخفاء، على تصعيد وتيرة تسليح المعارضة وتدريبها وتجهيزها، وأن دخول الباكستان على الخط، لتدريب آلاف المسلحين ومحاولات انتزاع موافقة أمريكية على تسليم المعارضة أسلحة “كاسرة للتوازن”، هي ما يدفع المعارضة للتشدد في مطالبها وشروطها، معوّلة على قدرة هذه الدول إن لم يكن على منع انعقاد مؤتمر “جنيف 2”، فتفجيره من الداخل، انتظاراً لصولات وجولات جديدة من الحرب المفتوحة في سوريا وعليها.

أياً يكن التفسير الأكثر صحة للتضارب ما بين الشعار المعلق في السماء والواقع الميداني على الأرض، فإن السؤال الذي سيظل يطرح نفسه بقوة وإلحاح هو: لماذا يذهب النظام وحلفاؤه إلى “جنيف 2” طالما أن هدف المؤتمر وفقاً للمعارضة وحلفائها، هو “تسليم” السلطة للمعارضة؟ ... وكيف يمكن للنظام وحلفائه، أن يقبلوا بتحويل المؤتمر إلى “حفلة استلام وتسليم” للسلطة بكل صلاحياتها ومقاديرها؟ ... وهل من المعقول أن يقبل النظام بتسليم المعارضة سلماً ما عجزت عن انتزاعه منه حرباً، وبعد أكثر من مائة ألف قتيل؟ ... هي السذاجة السياسية وحدها التي تدفع بأصحابها إلى تصديق ما يطرحونه من شعارات وشروط مسبقة، إن كانوا يصدقونها فعلاً؟

مجريات الأزمة السورية، ميدانياً وسياسياً، تعطي النظام مزيداً من أوراق القوة والتفوق، وتضعه في شروط تفاوضية أفضل مما كان عليه الحال في أي فترة سبقت منذ اندلاع المواجهات الدامية في سوريا ... ومن الطبيعي أن ينحو النظام، وليس المعارضة للتشدد والحالة كهذه، ولقد رأينا بعض آيات التشدد تطبع خطاب النظام ولغته ونبرته مؤخراً، وهذا أمرٌ مفهوم، لكن من غير المفهوم ولا المنطقي، أن يرفع المعارضون سقف خطابهم، أو يتمسكون بأول طبعةٍ منه، وهم في حالة فوضى وانقسام وتراجع وانهيار معنويات، كما في حلب وأرياف دمشق.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور