إحساس عميق بالخجل وأنا أقرأ أسئلة وتعليقات مواطنين على مواقع التواصل وفي الرسائل النصيّة المبثوثة على بعض المحطات الفضائية ... هذا يتمنى لو أن نيلسون مانديلا مات مسلماً، وذاك يسأل جواز الترحم عليه، خشية الوقوع في واحدة من «نواقض» الإسلام.
لكن الإحساس بالخجل تحول إلى إحساس بالعار، وأنا أقرأ «فتوى» عبد الرحمن البراك، المصنف «مرجعية فقهية» تصف الراحل الكبير بـ «الكافر» «الهالك»، وتخرج من يترحم عليه من الملة لوقوعه في واحدة من «نواقض» الإسلام، بل وتتهم المترحمين على المناضل الأفريقي – العالمي، بالمرتدين، أما بقية القصة الخاصة بحكم الردة، فمعروفة للجميع.
أي دركٍ هذا الذي وصلنا إليه مع «فقهاء الكتاتيب والعزلة» ... أي عقل هذا الذي لم يعد قادراً على رؤية العالم سوى من «ثقب إبرة» كتبه الصفراء ومراجعه البالية وكهوفه الرطبة المعتمة ... أي ثقافة يُراد إشاعتها بين الناس، تسقط بجرة قلم (فتوى) المنجز الإنساني لمليارات البشر من غير المسلمين ... من أين يأتي هؤلاء بكل هذه الكراهية والعداء للآخر ... في أية عصور يعيشون؟
إن جاز لنا أن نختصر تجربة مانديلا وفرادته، وهذه مهمة صعبة على أي كان، فهي تتلخص في ثلاثة وجوه: الأول، أن مانديلا مناضل صلب، سطّر أروع ملاحم الصمود في وجه جلاديه ومستعبدي شعبه، بخلاف فقهاء الظلام، الذين لم يكرم الله وجه أي منهم بالكفاح من أجل قضية عادلة، وعاشوا في خدمة غرائزهم وسلاطينهم ... والثاني، أن مانديلا، يختصر في شخصه، كل معاني الصفح والتسامح، وهذه القيم لا يعرفها هؤلاء المتدثرين بلبوس الدين، الذين لم يعرفوا التسامح والصفح يوماً، بل أعملوا خناجر الغدر وأحزمة القتل الناسفة، في الأجساد الغضة الطرية للأبرياء من أبناء أمتهم وشعوبهم ... والثالث، أن مانديلا هو المثال الحي على الزهد بالسلطة ومتاع الحياة الدنيا، بخلاف هؤلاء الذين أشبعونا تنظيراً و»إفتاء» عن هذه القيم من دون أن يقدموا لنا أمثولة واحدة على صدق التزامهم بما يقولون.
مانديلا، قامة كبيرة، انحنت أمام عظمتها جباه قادة العالم من قاراته الخمس، لكن الأقزام الذين أخفقوا في رؤية ما هو أبعد وأعلى من كعب حذائه، هم الذين يجهدون في تحطيم هذا النموذج والمثال الملهمين ... هؤلاء أساءوا لنا ولأنفسهم، ولم يسيئوا لمانديلا وإرثه الكفاحي المديد والخالد.
مانديلا، كان صديقاً لكل المظلومين والمضطهدين في العالم، وهل ثمة من هو أكثر «مظلومية» منا عرباً وفلسطينيين ومسلمين ... لقد كان الرجل على الدوام، وحتى أيامه الأخيرة، صوت الحق والعدل المناصر لنا، ولقضايانا العدالة، فكيف يجرؤ هؤلاء الذين كانوا سبباً في كثير من مشاكلنا وأزماتنا، أن يتطاولوا بسهامهم الصدئة على قامة بعلو وشموخ نيلسون مانديلا؟
من كفاحه لعقود ضد نظام الابارتيهد، استمدت أجيالٌ من شعبنا الفلسطيني العزم في نضالها ضد «الابارتهيد الصهيوني» ... ومن تجربة صموده الباسلة في سجون نظام الفصل والتميز العنصري، استمد ألوف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية العزم والثبات والنموذج والمثال ... من انتصاره المدوي في قارات العالم الخمس، ازداد المناضلون في ثورات الشعب الفلسطيني وانتفاضاته، ثباتاً على ثبات، ويقيناً على يقين ... فأين هؤلاء الذي فقدوا نعمة البصر والبصيرة، من كل هذا القيم والمعاني السامية ... أين المنغمسون في «جهاد النكاح» ودعاة الفتنة التي هي أشد من القتل، من هذه التجارب الإنسانية الرائعة، العابرة لحدود القومية واللون والجنس والدين؟
لكن عزائي الوحيد، أن الكثرة الكاثرة من الأردنيين والفلسطينيين والعرب والمسلمين، عبرت عن وقفة تضامن ووفاء للراحل الكبير، ومن بين جميع ردات الفعل التي قرأت، أسعدني بيان الحركة الإسلامية الأردنية في رثاء المناضل الأممي الكبير، فقد كان صوتاً عاقلاً في مواجهة طوفان الإسفاف والابتذال والتعصب والانغلاق، ونطالبها بمزيد من المحاججة الفكرية والفقهية مع ثقافة الكراهية وفقهاء الظلام... وأسعدتني تغريدات المهندس ليث شبيلات «مانديلا حجة على كل من يزعم أنه مؤمن وهو جبان»، معتبراً النضال ممراً لقبول إيمان المؤمن، مختتماً بالدعاء «اللهم أكرمني بهمة وصدق يوصلاني الى بعض نضال مانديلا لعل ايماني يقبل».
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور